الولايات المتحدة الأمريكية تعبر عن اهتمامها بالاستثمار في أنبوب الغاز المغرب-نيجيريا نحو أوروبا
في تطور استراتيجي يعكس حجم الرهانات الجيو-اقتصادية على مشروع أنبوب الغاز المغربي-النيجيري، برز اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بالاستثمار في هذا المشروع الطاقي الضخم الذي يمتد على أكثر من 6800 كيلومتر، رابطا نيجيريا بالمغرب مرورا بدول غرب إفريقيا، وفق ما كشف عنه والي إيدون، وزير المالية والمنسق للاقتصاد النيجيري، ولم يكن مفاجئا بقدر ما أكد أن المشروع دخل فعليا دائرة التنافس الدولي على مستقبل الطاقة في إفريقيا.
وبحسب ما نقلته صحيفة "The Cable" النيجيرية، عن والي إيدون، فإن لقاء رفيع المستوى جمعه ومحافظ البنك المركزي النيجيري أوبامي كاردوسو بمسؤولي وزارة الخارجية الأمريكية، على هامش الاجتماعات الربيعية لصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي بواشنطن، حيث شهد اللقاء تأكيدا أمريكيا واضحًا على أهمية الاستثمار في قطاع الغاز الطبيعي النيجيري، مع إبداء اهتمام خاص بأنبوب الغاز نحو المغرب، وهذه الإشارة تعكس رغبة واشنطن في تعزيز حضورها الاقتصادي في القارة السمراء، خاصة في ظل التنافس الحاد مع الصين وروسيا وأوروبا، فيما لم يقتصر الاهتمام الأمريكي على قطاع الطاقة فقط، بل شمل أيضا دعم سلاسل القيمة الزراعية وتعزيز الأمن الغذائي، في محاولة لبناء شراكات متعددة الأبعاد مع دول غرب إفريقيا.
وانخراط الولايات المتحدة الامريكية، في متابعة هذا المشروع لابد وأنه نابع عن وعي استراتيجي بأهمية إفريقيا كمصدر حيوي للطاقة في المستقبل القريب، فمع تصاعد التحولات الجيوسياسية الناتجة عن الحرب في أوكرانيا، وتزايد الضغوط الأوروبية للبحث عن بدائل آمنة ومستقرة للغاز الروسي، بات تأمين مصادر طاقة جديدة ذات مصداقية أولوية قصوى لواشنطن.
وأهمية المشروع بالنسبة للولايات المتحدة لا تتوقف عند البعد الطاقي، بل تمتد إلى إعادة تشكيل النفوذ الجيو-اقتصادي عبر إفريقيا، حيث تسعى واشنطن إلى مواجهة التغلغل الصيني والروسي عبر أدوات اقتصادية ملموسة وليس فقط عبر الخطاب السياسي، ولعل دخولها على خط دعم مشاريع من حجم أنبوب الغاز المغربي-النيجيري يوضح إدراكها بأن التنافس في القارة لم يعد يدور حول المساعدات، بل حول الشراكات الاستراتيجية طويلة الأمد، كما أن المشروع يعزز من دينامية الاستثمارات الأمريكية المرتبطة بالمبادرة العالمية للبنية التحتية والاستثمار (PGII)، التي أطلقتها إدارة بايدن في وقت سابق لمواجهة مبادرة "الحزام والطريق" الصينية.
وبالنظر إلى أن المغرب يُعد شريكًا استراتيجيًا للولايات المتحدة في إفريقيا، فإن دعم مشروع الغاز يمثل امتدادا طبيعيا لتوثيق الشراكة الاقتصادية الثنائية، مع استحضار الطابع المستقر والمحفز الذي يتمتع به المغرب كموقع موثوق للاستثمارات الطاقية الكبرى.
في موازاة ذلك، سبق لليلى بنعلي، وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة أن أكدت المشروع قطع خطوات نوعية، مع استكمال دراسات الجدوى والدراسات الهندسية الأساسية، وتحديد المسار النهائي الذي سيتصل بأنبوب الغاز المغاربي الأوروبي (GME). وأعلنت عن دخول المشروع مرحلة تنفيذية جديدة عبر إنشاء شركة مغربية-نيجيرية مشتركة (SPV) ستتولى تنسيق الدراسات التقنية ووضع الأطر القانونية والتنظيمية، كما تعمل الوزارة على تجهيز ميناء الناظور بوحدة تخزين عائمة للغاز الطبيعي المسال (FSRU)، والتي سترتبط عبر خط أنابيب بشبكة GME، مع امتدادات نحو المنطقة الصناعية بالقنيطرة ومدينة المحمدية، ما يعزز رؤية المغرب لبناء شبكة غاز وطنية متكاملة.
ويبلغ الطول الإجمالي للمشروع حوالي 6800 كلم تقريبا (5100 كلم بحري و1700 كلم بري)، أما طاقته السنوية المتوقعة، فهي 30 مليار متر مكعب، وتبلغ تكلفة المشروع 25 مليار دولار أمريكي، فيما عدد الدول المعنية بالربط هي 13 دولة (نيجيريا، بنين، توغو، غانا، كوت ديفوار، ليبيريا، سيراليون، غينيا، غينيا بيساو، غامبيا، السنغال، موريتانيا، المغرب).
المشروع، الذي يحظى بدعم قوي من مؤسسات تمويل دولية وإقليمية مثل البنك الإسلامي للتنمية وصندوق أوبك للتنمية الدولية والبنك الإفريقي للتنمية، لا يمثل مجرد ممر طاقي عابر للقارات، بل هو محفز لاقتصادات غرب إفريقيا عبر تأمين إمدادات الغاز، ودعم مشاريع إنتاج الكهرباء، والصناعات التحويلية، ورافعة للاندماج الإقليمي بتعزيز التعاون الاقتصادي بين الدول المعنية، كما أنه ممر بديل للطاقة نحو أوروباويساهم في تقليل الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، فضلا عن كونه قاعدة لاقتصاد الهيدروجين الأخضر عبر تمهيد البنية التحتية اللازمة لإنتاج ونقل الهيدروجين.
وبالنسبة للمغرب، يتجاوز المشروع الأبعاد الاقتصادية، ليكرس موقع المملكة كمركز طاقي إقليمي ودولي، فمن خلال الربط الطاقي مع إفريقيا وأوروبا، يعزز المغرب مكانته كمحور لنقل الطاقة النظيفة، ما يدعم أهدافه الاستراتيجية في تعزيز السيادة الطاقية الوطنية، تطوير الصناعات الخضراء والهيدروجين الأخضر، ترسيخ دوره في السياسة الطاقية الأوروبية الجديدة، وتوسيع نفوذه الاقتصادي والدبلوماسي داخل القارة الإفريقية.
وبهذا فإن مشروع خط أنبوب الغاز المغربي-النيجيري لم يعد مجرد طموح إقليمي، بل تحول إلى مشروع بحجم قارة، ومع دخول الولايات المتحدة على الخط، يزداد وزن المشروع كأحد أكبر الأوراش الجيو-طاقية في العالم. المغرب، الذي نجح في ترسيخ مكانته كمحور اقتصادي ودبلوماسي بين إفريقيا وأوروبا، يجد اليوم في هذا المشروع فرصة استراتيجية لتأكيد حضوره كلاعب رئيسي في معادلات الطاقة العالمية القادمة.
وعلى صعيد مواز، فإن مشروع خط أنبوب الغاز المغربي-النيجيري تجاوز كونه مجرد بنية تحتية طاقية وتحول إلى ورقة استراتيجية ثقيلة في لعبة إعادة تشكيل التوازنات الجيو-اقتصادية عبر إفريقيا وأوروبا، وبالتالي مع دخول الولايات المتحدة على الخط، وتزايد دعم المؤسسات التمويلية الكبرى، تتعزز مكانة المشروع كجسر طاقي واقتصادي بين الجنوب والشمال.
وخلال العقد القادم، من المتوقع أن يصبح هذا الأنبوب أحد الأعمدة الأساسية للأمن الطاقي الأوروبي، ويشكل في الوقت ذاته أداة رئيسية لتعزيز التكامل الاقتصادي الإفريقي، أما المغرب، فسيجد نفسه في موقع أفضل من أي وقت مضى للاضطلاع بدور محوري كممر إقليمي للطاقة النظيفة وكقوة اقتصادية صاعدة تربط بين إفريقيا وأوروبا.
في مقابل ذلك، تسعى الجزائر إلى تدارك موقعها الطاقي عبر الإعلان عن مشروع أنبوب غاز بديل يربط نيجيريا بأوروبا عبر أراضيها، وهو مشروع "أنبوب الغاز العابر للصحراء" (Trans-Saharan Gas Pipeline) الذي يمتد على حوالي 4000 كيلومتر، مرورًا بالنيجر ثم الجزائر وصولًا إلى المتوسط، غير أن هذا المشروع، الذي يعود التخطيط له إلى مطلع الألفية الثالثة، ظل لا يراوح مكانه بفعل التحديات الأمنية الخطيرة المرتبطة بمنطقة الساحل والصحراء، بما في ذلك تصاعد تهديدات الجماعات المسلحة، غياب الاستقرار السياسي في دول العبور، وتفاقم الأزمات الإنسانية.
فضلاً عن ذلك، أدت الخيارات الدبلوماسية الجزائرية إلى عزلة إقليمية متزايدة، خاصة مع تدهور علاقاتها مع دول الساحل مثل مالي والنيجر، عقب الانقلابات العسكرية التي أعادت تشكيل أنظمتها السياسية، وهذه التوترات حدَّت من قدرة البلد على بناء مشاريع تعاون طاقي موثوقة ومستقرة، وأضعفت جدوى مشروعها في نظر الشركاء الأوروبيين الباحثين عن مسارات آمنة ومستدامة.
على الضفة الأخرى، استفاد المغرب من موقعه الجغرافي الاستراتيجي على الواجهة الأطلسية، ومن استقراره السياسي، ومن ديناميته الاقتصادية، ليقدم نفسه كخيار موثوق للربط الطاقي بين إفريقيا وأوروبا، فيما مشروع أنبوب الغاز المغربي-النيجيري لا يمثل فقط استجابة لحاجيات أوروبا الطاقية، بل هو جزء من رؤية أوسع لتحويل المغرب إلى منصة إقليمية لتجارة الغاز والهيدروجين الأخضر، مستفيدًا من الطلب العالمي المتزايد على الطاقات النظيفة.
ويثبت مشروع أنبوب الغاز المغربي-النيجيري أن الرهانات الكبرى لا تُكسب فقط عبر امتلاك الموارد، بل عبر بناء تحالفات ذكية، وتأمين مسارات استراتيجية، وتقديم بدائل موثوقة ومستدامة للأسواق العالمية، فبينما تراهن الجزائر على مشروع يواجه عقبات أمنية وسياسية عميقة، يخطو المغرب بثبات نحو تثبيت موقعه كفاعل مركزي في معادلة الطاقة الإقليمية والعالمية خلال العقود القادمة، مستفيدًا من موقعه، استقراره، وشبكة تحالفاته الدولية المتنامية.





تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :