بعد 60 سنة من الاستقلال.. نظام عسكري مُنغلق واقتصاد ينخره الفساد و15 مليون جزائري تحت خط الفقر
أعطت الجزائر اهتماما كبيرا لاحتفالات الذكرى الستين لنيل الاستقلال، الذي أنهى، يوم 5 يوليوز 1962 سيطرة فرنسية استمرت لـ132 عاما، سبقها تواجد عثماني استمر لـ315 سنة، واختارت القيادة الحالية، التي تدار برأسين أحدهما مدني يتمثل في رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون والثاني عسكري في شخص قائد أركان الجيش السعيد شنقريحة، (اختارت) أن تحول الحدث إلى احتفالات كبيرة شملت استعراضا عسكريا هو الأكبر منذ 33 عاما.
وفي الوقت الذي استغلت فيه السلطات الجزائرية هذه المناسبة لاستعراض قدراتها العسكرية، لا زالت البلاد تعيش حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، حيث إن البلد المنتج للغاز والنفط، والذي تملك فيه الدولة مقدرات موارد الطاقة عبر العملاق "سوناطراك"، لا زال غارقا في مشاكل ارتفاع الأسعار ونقص المواد الغذائية والمنتجات الصناعية الأساسية، إلى جانب البطالة والفقر وارتفاع معدلات الهجرة غير النظامية، في زمن يرى فيه كثيرون أن حراك 2019 لم يؤدِ إلا إلى إعادة إنتاج النظام السابق.
الجيش.. المُسيطر وحده
وأتت ذكرى الاستقلال لتعاود طرح سؤال ظل يتردد طيلة العقود الستة الماضية، وهو ما إذا كانت البلاد قد قد حصلت على حريتها بالفعل، أم أنها انتقلت من حكم المستعمرين إلى نظام عسكري شمولي منغلق قد يكون أسوأ من فرنسا نفسها، والحال أن الجزائر لم تتخلص يوما من السيطرة الصارمة للجيش على نظام الحكم، والتي برزت بقوة خلال فترة العشرية السوداء في التسعينات، حين كان جنرالات مثل خالد نزار ومحمد مدين الشهير بتوفيق والبشير طرطاق، الأشخاص المتحكمين في صنع القرار السياسي لدرجة إدخال البلاد في دوامة حرب أهلية طويلة ما بين 1991 و2002.
وارتدت الجزائر العباءة المدنية سنة 1999 بوصول وزير الخارجية الأسبق، عبد العزيز بوتفليقة، إلى سدة الرئاسة بعد انتخابات كان فيها عمليا بلا منافس، باعتباره "مرشح الوفاق" والرَّجل الذي أتى ليُنهي الحقبة المُظلمة التي عاشتها البلاد، لكن عمليا ظل الجيش المتحكم الأساسي في السلطة، وأضاف لها السيطرة على المجال الاقتصادي، وهو ما أكده مركز "كارنيغي" للشرق الأوسط في دراسة صدرت في مارس من سنة 2021، إن النخبة العسكرية الجزائرية تتفاوض مع الوزراء والمدراء العامين لإفادة مشاريعهم العقارية والحصول على تسهيلات اقتصادية وجبائية وتخفيف القيود البيروقراطية، كما تسهم الشركات العائلية في حصول النخبة العسكرية على مناقصات وصفقات وطنية مع وزارة الدفاع الوطني، ومع باقي الوزارات.
وفي التقرير نفسه نجد تنبيها إلى الذراع الاقتصادية الطويلة للجيش بشكل غير مهيكل، حيث أورد أنه "في سياق اقتصادِي ريعي، ومع غياب اقتصاد عسكري ضخم ومعقد يجد القادة العسكريون طرقا أخرى للحصول على منافع موازية" مضيفا أن بيروقراطية الدولة المدنية تشكل له مصدرا للامتيازات والمداخيل، وهو الأمر الذي يفسر إلى حد بعيد لماذا جعل كان الحراك الذي انفجر سنة 2019 يطالب بدولة مدنية لا عسكرية، برحيل كل الطبقة الحاكمة دون استثناء، من سياسيين وعسكريين، تحت شعار "يتنحاو كاع".
من عسكري إلى آخر
وكان الحراك الذي استمر لشهور في الشارع، ولم تُخَفف من حدته إلا جائحة كورونا سنة 2020، أعلى صرخة يطلقها الجزائريون ضد نظام وصفوه بأنه "أشد وطأة من الاستعمار"، وبدأ الأمر برفض ترشيح عبد العزيز بوتفليقة، الرجل المُقعد العاجز عن الكلام والحركة، لعهدة رئاسية خامسة، لكن تحول إلى مطالب بمحاكمة رموز الفساد في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهي مجالات متداخلة على أية حال في النسخة الجزائرية لممارسة السلطة.
وفي هذه اللحظة سيبرز عسكري آخر للإمساك بزمام المبادرة، وهو رئيس الأركان السابق أحمد قايد صالح، الذي كان وراء دفع بوتفليقة إلى الاستقالة، ليشرع في حملة واسعة استهدفت خصومه من قيادات أجهزة الجيش والأمن والمخابرات، ما دفع الجنرال نزار إلى الفرار نحو إسبانيا للنجاة من حكم قضائي بالسجن النافذ لـ20 عاما، أما مدير المخابرات والأمن الجنرال توفيق فاعتُقل خلال الحراك رفقة خليفته على رأس جهاز المخابرات الجنرال طرطاق، ليواجها معا تهما تتعلق بالمساس بسلطة الجيش.
وبدا الأمر وكأنه ليس سوى انتهاء حقبة قديمة من الحكم العسكري وبداية حقبة أخرى، وكان على قايد صالح حينها أن يضمن وصول اسم مدني مقرب منه إلى موقع رئيس الجمهورية، لذلك اختار رجل النظام عبد المجيد تبون، البالغ من العمر حينها 74 عاما، والذي كان وزيرا أولا في عهد بوتفليقة ووزيرا للداخلية في عهد هذا الأخير مرة وفي عهد الشاذلي بن جديد مرة أخرى، وجرى تقديمه كمرشح "حر" قبل أن يُعلن فوزه في انتخابات 13 دجنبر 2019 من الجولة الأولى بأكثر من 58 في المائة من الأصوات.
إعادة إحياء النظام السابق
وليكتمل السيناريو العسكري الغريب، سيُعلن التلفزيون الرسمي الجزائري، يوم 23 دجنبر 2019، عن وفاة رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي ونائب وزير الدفاع، أحمد قايد صالح، عن عمر 79 عاما، الأمر الذي لا زال العديد من المعارضين الجزائريين يرونه اغتيالا، وفي مقدمتهم الدبلوماسي السابق ومؤسس حركة رشاد، محمد العربي زيتوت، معتبرين أن دوره كان قد انتهى وحان الوقت لعودة الجناح السابق إلى التحكم في صناعة القرار، والذي سيقوده هذه المرة جنرال آخر، هو السعيد شنقريحة، ذو الـ74 عاما حينها.
والحال أن وصول شنقريحة أعاد بشكل واضح جميع معالم النظام السابق وبشكل أكثر بروزا، فالرجل بدأ عهده بإعلان عداء صريح للمغرب، زادت حدته بالتلويح بالحرب بعد العملية الميدانية للقوات المسلحة الملكية في الكركارات يوم 13 نونبر 2020، وتدريجيا بدأت التهم الثقيلة تسقط عن كبار جنرالات الحقبة السوداء، والذين خرجوا من السجون وعادوا من المنفى الاختياري وأنهوا تقاعدهم للعودة إلى مربع صنع القرار على غرار الجنرال عبد القادر آيت وعرابي الشهير بـ"حسان" والجنرال جبار مهنا.
ولم يعد موقع شنقريحة الجديد، كحاكم فعلي للجزائر، خافيا على أحد داخل وخارج البلاد، بل إن سلطات هذا البلد لم تعد تجتهد لإخفائه أساسا، وهي قناة يخرج بها كل من شاهد ترقيته أمس الاثنين، قبل يوم واحد من ذكرى الاستقلال، إلى رتبة "فريق أول" تحت أصوات الزغاريد والتصفيقات بالقصر الرئاسي، بينما كان تبون يشد بحرارة على الرتبة الجديدة الموضوعة على كتف الرجل الذي عاش هزيمة حرب الرمال ضد المغرب سنة 1963 لم يستطيع حتى التحكم في خطواته بسبب تقدمه في العمر.
اقتصاد ميت لولا النفط والغاز
لكن قبضة الجيش على البلاد ليست الأمر الوحيد الذي يؤرق بال الجزائريين بعد 60 عاما على الاستقلال، فالدولة تعاني من اقتصادي متهالك يرتكز أساسا على صادرات النفط والغاز، وفي العام الماضي قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إن قيمة المحروقات تسيطر على 98 في المائة من إجمالي الصادرات، لذلك أعلن عن رغبته في خفض هذه النسبة إلى 80 في المائة فقط، لكن المشكلة التي تواجهه هي أن البلاد تعاني من منظومة صناعية متهالكة ينخرها الفساد وضعف التخطيط الاستراتيجي.
ففي فبراير الماضي، أكد تبون نفسه أن الجزائر خسرت 3,5 ملايير دولار من أجل إنشاء مصانع تركيب السيارات "وفي الأخير لا تركيب ولا هم يحزنون"، على حد تعبيره، مبرزا أن لطريقة التي تعاملت بها سلطات بلاده مع هذا المشروع كانت خاطئة، وهو أمر سبقه إليه الوزير الأول الأسبق عبد المالك سلال، الذي قال خلال محاكمته في نونبر من سنة 2020 إن استثمارات صناعة السيارات التي أطلقت سنة 2014 كلفت خزينة البلاد 34 مليار دينار، وكان الهدف منها "كسر" منظومة صناعة السيارات بالمغرب.
وفي ظل هذا الوضع، أصبحت الجزائر رهينة لتقلبات سوق النفط والغاز العالمية، فإن كانت من بين المستفيدين من الوضع الحالي الذي فرضته الحرب الروسية الأوكرانية، فإن الوضع لم يكن كذلك مع بداية العام، حيث توقع قانون المالية الجزائري عجزا تاريخيا قيمته 31 مليار دولار بسبب أن السعر المرجعي للنفط لم يكن يتجاوز 45 دولارا، الأمر الذي أدى إلى انعكاسات اجتماعية واقتصادية سيئة عانت منها البلاد خلال وبعد جائحة كورونا.
النفط والفقر.. بلد المتناقضات
وعادة، عندما يتم الحديث عن بلد نفط عربي، تتجه الأذهان إلى دول مثل السعودية أو قطر أو الإمارات وغيرها من دول الخليج، التي ارتبطت صادرات هذه المادة فيها بتحسن واضح ومتواصل في مستويات العيش لدرجة بلوغ مرحلة الرفاهية ، في حين لا يتم تصنيف الجزائر ضمن هذه الخانة، لأن البلد الذي يبلغ تعداد سكانه حوالي 44 مليون نسمة، يعيش أوضاعا اجتماعية واقتصادية سيئة، لدرجة معاناته من الخصاص في العديد من السلع الأساسية مثل البطاطس والزيت والحليب والقطاني.
وفي 2019 قالت الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان إن 15 مليون جزائري يعيشون تحت خط الفقر، أما الداخلية الإسبانية فقالت العام الماضي إنه خلال الأشهر الستة الأولى من السنة كان 70 في المائة من المهاجرين غير النظاميين الواصلين إلى أراضيها الإيبيرية يحملون الجنسية الجزائرية، وفي يناير من هذا العام خرج الجزائريون في عدة مناطق للاحتجاج على ندرة المواد الأساسية، ما دفع البرلمان إلى إنشاء لجنة تحقيق برلمانية للتقصي في أسباب ذلك.
وكان صندوق النقد الدولي قد دعا الجزائر، في أكتوبر من سنة 2021، إلى إعادة ضبط سياستها الاقتصادية وتنفيذ إصلاحات هيكلية، بسبب الضرر الكبير الذي أصاب اقتصادها جراء تداعيات جائحة كورونا وانخفاض أسعار المحروقات، مبرزا أن هناك "حاجة ملحة لإعادة ضبط السياسات الاقتصادية بهدف تصحيح الاختلالات الاقتصادية الكلية مع ضمان الحماية والدعم للفئات الأشد ضعفا"، في حين قال تحليل لمؤسسة "دوتش فيله" الألمانية إن "أكثر من ثلث الشباب في سن العمل من البطالة في الوقت الذي تقول فيه المصادر الرسمية أن نسبتها بحدود 15 بالمائة فقط".
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :