تحيين مبادئ الحكم الذاتي المغربي في ضوء التجارب الدولية
تندرج إشكالية الصحراء المغربية ضمن أعقد النزاعات الترابية التي عرفها النظام الدولي المعاصر، ليس فقط بسبب امتدادها الزمني، بل أيضا لتداخل أبعادها التاريخية والقانونية والسياسية والإقليمية. فهي ليست نزاعا حدوديا تقليديا بين دولتين، ولا حالة تصفية استعمار بالمعنى الكلاسيكي الذي عرفه النصف الثاني من القرن العشرين، بل نزاع مركب تشابكت فيه اعتبارات الشرعية التاريخية مع تحولات القانون الدولي، وتقاطعت فيه رهانات الوحدة الترابية مع حسابات الجغرافيا السياسية الإقليمية. ومن ثم فإن أي مقاربة علمية جادة لهذا النزاع لا يمكن أن تنطلق من اختزاله في بعد واحد، ولا من إسقاط نماذج جاهزة لا تراعي خصوصيته البنيوية.
لقد أظهرت التجربة التاريخية أن المقارنات التقليدية، التي سعت إلى إدراج قضية الصحراء المغربية ضمن قوالب نمطية مثل حالات الاستقلال أو الاستفتاء الانفصالي، وصلت إلى حدودها القصوى، سواء على مستوى الفعالية السياسية أو على مستوى الانسجام القانوني. فهذه المقارنات أغفلت في كثير من الأحيان خصوصية الدولة المغربية باعتبارها دولة ذات سيادة تاريخية ممتدة، وأغفلت كذلك طبيعة النزاع بوصفه نزاعا إقليميا ذا أبعاد إقليمية ودولية، لا مجرد مسألة تقرير مصير بالمعنى الضيق. كما أن استحضار نماذج انفصالية من سياقات مغايرة أدى إلى إرباك التحليل، بدل الإسهام في بلورة حلول واقعية قابلة للتطبيق.
وفي هذا السياق، برز الحكم الذاتي كحل سياسي ودستوري يتجاوز ثنائية الجمود أو الانفصال، ويقترح مسارا ثالثا قادرا على التوفيق بين متطلبات السيادة ووحدة الدولة من جهة، ومطالب التدبير الذاتي والاعتراف بالخصوصيات المحلية من جهة أخرى. فالحكم الذاتي، كما تطور في الفكر الدستوري المعاصر، لا يمثل تنازلا عن السيادة، بل إعادة تنظيم لممارستها داخل إطار الدولة الموحدة، بما يسمح باستيعاب التنوع دون تقويض الوحدة. وهو بهذا المعنى ليس حلا تقنيا مؤقتا، بل خيارا استراتيجيا يعكس تحولا في فلسفة الدولة تجاه إدارة الاختلافات الترابية.
وتكتسي مبادرة الحكم الذاتي المغربية أهمية خاصة لأنها لا تنطلق من منطق الإكراه أو فرض الأمر الواقع، بل من تصور سياسي وقانوني يسعى إلى تقديم حل تفاوضي واقعي، يأخذ بعين الاعتبار تطور معايير الشرعية الدولية، ومقتضيات الاستقرار الإقليمي، ومتطلبات التنمية المحلية. فهي مبادرة تعيد توجيه النقاش من سؤال السيادة المجردة إلى سؤال الحكامة الترابية، ومن منطق الصراع الصفري إلى منطق تقاسم المسؤولية داخل الدولة. ولذلك فإن تحليل هذه المبادرة يقتضي تجاوز الخطاب السياسي المباشر، والانتقال إلى تفكيكها بوصفها مشروعا دستوريا قابلا للتقعيد والمقارنة.
ومن هنا تبرز أهمية المقارنة الدولية، لا باعتبارها أداة لإثبات التشابه السطحي بين الحالات، بل بوصفها منهجا علميا يسمح بفهم كيف تعاملت دول ديمقراطية مستقرة مع نزاعات ترابية معقدة، عبر صيغ متعددة من الحكم الذاتي. فالمقارنة لا تهدف إلى استنساخ النماذج الأجنبية، ولا إلى تبرير الحل المغربي عبر إسقاط تجارب مغايرة، بل إلى استلهام المنطق الذي حكم تلك التجارب، واستخلاص الشروط التي جعلت الحكم الذاتي أداة للاستقرار في سياقات مختلفة. وهي مقارنة نقدية، تبحث في النجاحات كما تبحث في الإخفاقات، وتتعامل مع النماذج المقارنة بوصفها خبرات تاريخية، لا وصفات جاهزة.
وتسمح المقارنة الدولية كذلك بإبراز أن الحكم الذاتي لم يعد استثناء في النظام الدولي، بل أصبح آلية معترف بها لمعالجة النزاعات الترابية داخل الدول، خاصة في الحالات التي يستحيل فيها الجمع بين مطالب الانفصال ومتطلبات الاستقرار. كما تبرز أن نجاح الحكم الذاتي لا يرتبط بحجم الصلاحيات فقط، بل بوضوح الإطار الدستوري، ودقة توزيع الاختصاصات، ووجود ضمانات قانونية ومؤسساتية تحول دون الانزلاق نحو التأويلات الانفصالية أو نحو إعادة المركزية المقنعة.
وفي ضوء ذلك، تتأسس هذه الدراسة على قناعة مفادها أن معالجة نزاع الصحراء المغربية تقتضي الانتقال من منطق المقارنات الإيديولوجية إلى منطق التحليل الدستوري المقارن، ومن الخطاب السياسي الظرفي إلى البناء المفهومي والمؤسساتي. فالحكم الذاتي، حين يتم تحليله في ضوء التجارب الدولية، يظهر ليس فقط كحل ممكن، بل كحل منسجم مع تطور الدولة الحديثة، ومع التحولات التي عرفها القانون الدولي في تعاطيه مع قضايا التعدد والنزاعات الترابية.
وبذلك، تسعى هذه المقدمة إلى وضع الإطار العام للدراسة، من خلال إبراز سياق النزاع حول الصحراء المغربية، وتحديد حدود المقارنات التقليدية التي أثبتت قصورها، وبيان موقع الحكم الذاتي كحل سياسي ودستوري متقدم، مع التأكيد على الدور المركزي للمقارنة الدولية في إغناء التحليل وتحريره من الاختزال والتبسيط. فهي مقدمة لا تبحث عن الحسم السياسي، بقدر ما تسعى إلى تأسيس نقاش علمي رصين، يجعل من الحكم الذاتي موضوعا للتحليل، لا مجرد شعار في سجال سياسي مفتوح.
في المفهوم القانوني للحكم الذاتي: من التفويض الدستوري إلى إدارة التعدد الترابي:
يعد الحكم الذاتي من المفاهيم القانونية والسياسية المركبة التي تبلورت في سياق البحث عن صيغ دستورية بديلة لمعالجة النزاعات الترابية داخل الدول الموحدة، دون اللجوء إلى الانفصال أو إعادة رسم الحدود. فهو ليس مفهوما تقنيا محضا، ولا مجرد آلية إدارية متقدمة، بل صيغة دستورية ذات حمولة سياسية وقانونية عميقة، تهدف إلى التوفيق بين مبدأ وحدة الدولة من جهة، وحق الساكنة المحلية في تدبير شؤونها الذاتية من جهة أخرى. ومن ثم فإن فهم المفهوم القانوني للحكم الذاتي يقتضي تفكيك عناصره التأسيسية، والتمييز بينه وبين مفاهيم قريبة قد يختلط بها، مثل اللامركزية، والفدرالية، وتقرير المصير.
من الناحية القانونية، يمكن تعريف الحكم الذاتي بوصفه نظاما دستوريا تمنح بموجبه الدولة جزءا من سلطاتها التشريعية والتنفيذية، وأحيانا التنظيمية، إلى وحدة ترابية محددة داخل إقليمها، مع احتفاظها الكامل بالسيادة والاختصاصات الجوهرية للدولة. ويقوم هذا التعريف على عنصرين أساسيين لا يمكن فصلهما، أولهما أن الحكم الذاتي يمارس داخل إطار الدولة القائمة، وثانيهما أن مصدر السلطة في الحكم الذاتي يظل هو الدستور الوطني، لا إرادة سياسية مستقلة عن الدولة. فالحكم الذاتي، بهذا المعنى، ليس تعبيرا عن سيادة محلية، بل عن تفويض دستوري من الدولة إلى جزء من ترابها.
ويتميز الحكم الذاتي عن اللامركزية الإدارية التقليدية بكونه لا يقتصر على نقل بعض الاختصاصات التنفيذية أو التدبيرية، بل يشمل، في صوره المتقدمة، سلطات تشريعية جهوية، وهيئات منتخبة تتمتع بشرعية سياسية مستقلة نسبيا عن السلطة المركزية. فاللامركزية، في صورتها الكلاسيكية، تقوم على توزيع إداري للمهام داخل هرم الدولة، في حين أن الحكم الذاتي يؤسس لعلاقة أفقية نسبيا بين المركز والجهة، قوامها التعاقد الدستوري وتوزيع السلطة، لا مجرد التفويض الإداري القابل للسحب.
كما يختلف الحكم الذاتي عن الفدرالية اختلافا جوهريا، رغم ما قد يبدو بينهما من تشابه ظاهري. فالفدرالية تقوم على تقاسم السيادة بين الدولة الاتحادية والولايات المكونة لها، حيث تمتلك هذه الأخيرة سلطة تأسيسية جزئية، وتشارك في إنتاج الإرادة الدستورية الاتحادية. أما الحكم الذاتي، فلا يقوم على تقاسم السيادة، بل على وحدتها، ولا يمنح الجهة ذات الحكم الذاتي أي سلطة تأسيسية مستقلة، بل يظل وجودها وصلاحياتها مستمدين من الدستور الوطني، وقابلين للتعديل وفق مساطره. ومن ثم فإن الحكم الذاتي يظل دائما أقل درجة من الفدرالية، وأكثر ارتباطا بمبدأ الدولة الموحدة.
ويكتسي التمييز بين الحكم الذاتي ومفهوم تقرير المصير أهمية خاصة في سياق النزاعات الترابية. فتقرير المصير، في القانون الدولي، يرتبط تاريخيا بسياق تصفية الاستعمار، ويمنح الشعوب الخاضعة للهيمنة الأجنبية حق اختيار وضعها السياسي، بما في ذلك الاستقلال. غير أن تطور القانون الدولي أفرز مفهوما مكملا هو تقرير المصير الداخلي، الذي يعني حق الساكنة في المشاركة في تدبير شؤونها داخل الدولة القائمة. ويعد الحكم الذاتي من أبرز تجليات هذا الشكل الداخلي لتقرير المصير، إذ يوفر إطارا مؤسساتيا لممارسة هذا الحق دون المساس بوحدة الدولة أو سيادتها.
ومن هذا المنظور، يكتسب الحكم الذاتي مشروعيته القانونية من كونه آلية لتحقيق التوازن بين مبدأين أساسيين في القانون الدستوري والقانون الدولي، هما مبدأ وحدة الدولة ومبدأ المشاركة السياسية. فهو يسمح للدولة بالحفاظ على تماسكها الترابي، وفي الوقت ذاته يستجيب لمطالب الخصوصية والتمثيل الذاتي التي غالبا ما تشكل جوهر النزاعات الترابية. ولذلك، فإن الحكم الذاتي لا يعد تنازلا عن السيادة، بل أسلوبا متقدما لممارستها بطريقة أكثر مرونة وذكاء.
ويفترض المفهوم القانوني للحكم الذاتي وجود نص دستوري أو قانوني ذي قيمة عليا يحدد بدقة مجاله، ومؤسساته، واختصاصاته، وحدود علاقته بالسلطة المركزية. فغياب هذا التأطير الدستوري يحول الحكم الذاتي إلى مجرد ترتيبات سياسية ظرفية، قابلة للانهيار عند أول أزمة. ومن ثم فإن الدسترة تشكل عنصرا جوهريا في المفهوم القانوني للحكم الذاتي، لأنها تنقله من منطق التوافق السياسي المؤقت إلى منطق الالتزام القانوني الدائم.
كما يقوم الحكم الذاتي، في بعده القانوني، على مبدأ التخصيص الترابي، أي أنه يمنح لوحدة ترابية محددة بسبب خصوصيات تاريخية أو ثقافية أو لغوية أو اجتماعية، ولا يشكل بالضرورة نموذجا عاما قابلا للتعميم على باقي التراب الوطني. وهذا ما يميزه عن الجهوية الموسعة، التي تقوم على تعميم نمط واحد من التنظيم الترابي. فالحكم الذاتي، بهذا المعنى، هو استثناء دستوري مضبوط، يهدف إلى معالجة وضعية خاصة، لا إلى إعادة هندسة الدولة برمتها.
ويفترض هذا الاستثناء، من الناحية القانونية، وجود ضمانات تحول دون تحوله إلى مسار انفصالي أو إلى دولة داخل الدولة. ولذلك، فإن معظم صيغ الحكم الذاتي تقرن نقل الصلاحيات بآليات رقابة دستورية وقضائية، تضمن احترام توزيع الاختصاصات، وتحمي وحدة النظام القانوني. فالمفهوم القانوني للحكم الذاتي لا يكتمل إلا بوجود جهة تحكيم دستوري قادرة على الفصل في النزاعات بين المركز والجهة، ومنع أي انزلاق نحو تأويلات توسعية غير مشروعة.
ومن زاوية أخرى، يعكس الحكم الذاتي تحولا في تصور الدولة لوظيفتها، من دولة مركزية مهيمنة إلى دولة منسقة ومنظمة للتعدد. فالدولة التي تعتمد الحكم الذاتي لا تتخلى عن سلطتها، بل تعيد توزيعها بطريقة تسمح باستيعاب التنوع داخل بنيتها. وهذا التحول يعكس تطورا في الفكر الدستوري المعاصر، الذي لم يعد ينظر إلى الوحدة بوصفها نقيضا للتعدد، بل بوصفها إطارا لاحتضانه وتنظيمه.
وبذلك، يمكن القول إن المفهوم القانوني للحكم الذاتي يتأسس على أربعة عناصر مترابطة، هي وحدة السيادة، والتفويض الدستوري، والتخصيص الترابي، والضمانات القانونية. ومن دون اجتماع هذه العناصر، يفقد الحكم الذاتي طابعه القانوني، ويتحول إما إلى لامركزية إدارية موسعة، أو إلى فدرالية مقنعة، أو إلى مشروع انفصالي مؤجل. أما حين يضبط بهذه الشروط، فإنه يصبح أداة دستورية فعالة لمعالجة النزاعات الترابية، وتجسيدا لقدرة الدولة على تجديد آلياتها في إدارة الاختلاف.
وفي ضوء ذلك، لا يمكن فهم الحكم الذاتي باعتباره حلا تقنيا معزولا، بل يجب إدراجه ضمن فلسفة دستورية شاملة، ترى في التنوع واقعا ينبغي تنظيمه لا إنكاره، وفي الدولة إطارا مرنا قادرا على التكيف مع التحولات الاجتماعية والسياسية. فالحكم الذاتي، في جوهره القانوني، ليس نهاية للدولة، بل أحد أشكال تطورها، حين تختار معالجة النزاعات الترابية بمنطق الدستور والمؤسسات، لا بمنطق القوة أو الجمود.
أولا، الحكم الذاتي في القانون الدولي: من تقرير المصير الخارجي إلى الحكم الذاتي الداخلي
يحتل الحكم الذاتي موقعا متقدما في تطور القانون الدولي المعاصر باعتباره احد الحلول الدستورية والسياسية التي جرى اعتمادها لمعالجة النزاعات الترابية داخل الدول، دون المساس بمبدأ السيادة أو فتح الباب أمام الانفصال. فالقانون الدولي، وإن كان قد ارتبط تاريخيا بحق تقرير المصير في سياق تصفية الاستعمار، فإنه شهد منذ النصف الثاني من القرن العشرين تحولا عميقا في مقاربته لهذه القضايا، انتقل فيه من منطق الاستقلال الخارجي إلى منطق المشاركة الداخلية في السلطة. وفي هذا السياق، برز الحكم الذاتي كصيغة وسطى تجمع بين احترام وحدة الدول من جهة، والاستجابة لمطالب التمثيل والخصوصية من جهة أخرى.
ينطلق تناول الحكم الذاتي في القانون الدولي من مبدأ تقرير المصير، الذي يعد من المبادئ الأساسية التي كرسها ميثاق الأمم المتحدة، خاصة في مادته الأولى التي تنص على احترام مبدأ المساواة في الحقوق بين الشعوب وحقها في تقرير مصيرها. غير أن هذا المبدأ لم يكن، في الأصل، مفهوما واحدا بسيطا، بل عرف تطورا دلاليا وسياقيا. ففي مرحلته الأولى، ارتبط تقرير المصير ارتباطا وثيقا بحركات التحرر الوطني، وكان يعني في جوهره تمكين الشعوب المستعمرة من الاستقلال وتأسيس دولها الوطنية. غير أن انتهاء مرحلة الاستعمار الكلاسيكي فرض على القانون الدولي إعادة تأويل هذا المبدأ، حتى لا يتحول إلى أداة لتفكيك الدول القائمة أو لشرعنة النزاعات الانفصالية.
ومن هنا ظهر التمييز في الفقه الدولي بين تقرير المصير الخارجي وتقرير المصير الداخلي. فالأول يتعلق بحق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال أو السيطرة الأجنبية في الاستقلال، بينما يشير الثاني إلى حق السكان داخل الدولة في المشاركة في الحكم وتدبير شؤونهم السياسية والاقتصادية والثقافية. ويعد الحكم الذاتي من أبرز الآليات القانونية التي تندرج ضمن مفهوم تقرير المصير الداخلي، إذ يسمح بممارسة هذا الحق في إطار الدولة القائمة، دون المساس بوحدتها الترابية أو سيادتها الدولية.
وقد عزز هذا التوجه عدد من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي أكدت مرارا على مبدأ احترام الوحدة الترابية للدول، ورفض أي محاولة لتقويضها تحت ذريعة تقرير المصير. فقد نص إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية بين الدول لسنة 1970 على أن حق تقرير المصير لا يجوز تفسيره على نحو يجيز أو يشجع أي عمل يؤدي إلى تفكيك أو تقويض الوحدة الترابية أو السلامة الإقليمية للدول ذات السيادة التي تحترم مبدأ المساواة في الحقوق وتكفل تمثيلا سياسيا لجميع سكانها. ويستفاد من هذا النص أن القانون الدولي يربط مشروعية تقرير المصير الداخلي بوجود نظام سياسي يتيح المشاركة والتمثيل، وهو ما يوفره الحكم الذاتي في صوره المختلفة.
وفي إطار معالجة النزاعات الترابية، أصبح الحكم الذاتي يحظى باعتراف متزايد كحل واقعي وقابل للتطبيق، خاصة حين يستحيل التوفيق بين مطالب الانفصال ومتطلبات الاستقرار الدولي. وقد اعتمدت الأمم المتحدة، في عدد من النزاعات، مقاربات تقوم على منح أقاليم متنازع عليها شكلا من أشكال الحكم الذاتي الموسع، تحت سيادة الدولة الأم، باعتباره حلا سياسيا متوازنا. ويعكس هذا التوجه إدراكا دوليا متزايدا بأن الاستقلال ليس دائما الحل الأمثل، وأن تقاسم السلطة داخل الدولة قد يكون أكثر انسجاما مع السلم والأمن الدوليين.
ويتميز الحكم الذاتي في القانون الدولي بكونه حلا غير نمطي، أي أنه لا يخضع لقالب موحد، بل يتكيف مع خصوصيات كل حالة. فالقانون الدولي لا يفرض نموذجا محددا للحكم الذاتي، ولا يحدد مسبقا مستوى الصلاحيات أو طبيعة المؤسسات، بل يترك للدول هامشا واسعا لتصميم هذه الصيغ وفق دساتيرها وأنظمتها السياسية. غير أن هذا الهامش لا يعني غياب المعايير، إذ يشترط أن يكون الحكم الذاتي حقيقيا وفعليا، أي أن يمنح للسكان سلطة فعلية في تدبير شؤونهم، لا مجرد صلاحيات شكلية تفرغ المفهوم من مضمونه.
كما يشدد القانون الدولي على الطابع التعاقدي والسياسي للحكم الذاتي، باعتباره نتيجة لمسار تفاوضي، لا لفرض أحادي الجانب. فمشروعية الحكم الذاتي دوليا تتعزز كلما كان ناتجا عن توافق داخلي، ومصادقا عليه عبر آليات ديمقراطية، سواء من خلال الاستفتاء أو المؤسسات التمثيلية. ويهدف هذا الشرط إلى ضمان قبول السكان المعنيين بالحل، وتحويل الحكم الذاتي من تسوية مفروضة إلى خيار جماعي.
ومن زاوية أخرى، يرتبط الحكم الذاتي في القانون الدولي بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. فتصميم وتنفيذ صيغ الحكم الذاتي يظل، من حيث الأصل، شأنا داخليا يخضع للسيادة الدستورية للدولة. ولا يتدخل المجتمع الدولي إلا في حدود التيسير أو الدعم أو المراقبة العامة، دون أن يحل محل المؤسسات الوطنية. ويعكس هذا المبدأ توازنا دقيقا بين البعد الدولي للنزاعات الترابية، والبعد السيادي للدول في معالجتها.
كما يبرز في هذا السياق دور مجلس الأمن، الذي غالبا ما يتعامل مع النزاعات الترابية من زاوية السلم والأمن الدوليين، لا من زاوية الشرعية القانونية المجردة. فحين يعتبر أن نزاعا ما يهدد الاستقرار الإقليمي، فإنه يشجع الأطراف على البحث عن حلول سياسية واقعية، من بينها الحكم الذاتي، دون أن يفرض حلا محددا. ويمنح هذا الدور للحكم الذاتي بعدا عمليا، بوصفه حلا توافقيا يحظى بدعم دولي، لا مجرد خيار نظري.
ويكتسي الحكم الذاتي في القانون الدولي أيضا بعدا وقائيا، إذ ينظر إليه كآلية لمنع تفجر النزاعات أو تجددها. فالدولة التي تعتمد الحكم الذاتي لمعالجة مطالب الخصوصية والتمثيل، تبعث برسالة مفادها أن النظام الدولي لم يعد يتسامح مع الإقصاء أو التهميش، لكنه في الوقت ذاته لا يكافئ النزعات الانفصالية. وهذا التوازن الدقيق هو ما يجعل الحكم الذاتي خيارا مفضلا في كثير من السياقات المعاصرة.
غير أن القانون الدولي، رغم اعترافه بالحكم الذاتي، لا يمنحه صفة الحق المطلق. فالحكم الذاتي ليس حقا قائما بذاته، بل آلية قانونية وسياسية تخضع لتقدير الدولة، في إطار احترامها لحقوق الإنسان والمشاركة السياسية. ولا يمكن لأي مجموعة أن تطالب بالحكم الذاتي استنادا إلى القانون الدولي وحده، دون اعتبار لخصوصيات السياق الدستوري والسياسي للدولة المعنية. ويؤكد هذا المعطى أن الحكم الذاتي يظل، في جوهره، حلا تفاوضيا، لا قاعدة قانونية آمرة.
وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن الحكم الذاتي في القانون الدولي يمثل تحولا نوعيا في معالجة النزاعات الترابية، انتقل فيه النظام الدولي من منطق التقسيم والاستقلال إلى منطق الإدماج والتقاسم. فهو يجسد فهما جديدا لتقرير المصير، لا باعتباره حقا في الانفصال، بل حقا في الحكم داخل الدولة. ومن خلال هذا الفهم، أصبح الحكم الذاتي أداة دستورية وسياسية تتيح للدول الحفاظ على وحدتها، وفي الوقت ذاته الاستجابة لمطالب التنوع والخصوصية، بما يخدم الاستقرار الداخلي والسلم الدولي.
وبذلك، يتبين أن الحكم الذاتي ليس مفهوما هامشيا في القانون الدولي، بل أحد تعبيرات تطوره المعاصر، حين سعى إلى التوفيق بين سيادة الدول وحقوق السكان، وبين الاستقرار الدولي والعدالة السياسية. فهو حل لا يلغي التوترات دفعة واحدة، لكنه يوفر إطارا قانونيا ومؤسساتيا لإدارتها سلميا، ويمنح الدول هامشا واسعا للابتكار الدستوري، في مواجهة نزاعات ترابية معقدة ومتعددة الأبعاد.
ثانيا، النموذج الإسباني للحكم الذاتي: اللامركزية السياسية الموسعة وحدود التوازن بين الوحدة والتعدد
يشكل النموذج الإسباني للحكم الذاتي أحد أكثر النماذج المقارنة حضورا في الأدبيات الدستورية المعاصرة، ليس فقط بسبب اتساع نطاق الصلاحيات الممنوحة للأقاليم، بل أيضا بسبب السياق التاريخي والسياسي الذي نشأ فيه، بوصفه استجابة دستورية مركبة لإرث مركزي صارم ولتعدد هوياتي ولغوي عميق داخل دولة موحدة. ومن ثم فإن دراسة هذا النموذج لا تقتصر على وصف بنيته المؤسساتية، بل تستدعي تحليل فلسفته الدستورية، وحدود توازنه، ودروسه الإيجابية والإشكالية على السواء، خاصة حين يتم استحضاره كمصدر إلهام لنماذج حكم ذاتي في سياقات نزاع ترابي.
انبثق النموذج الإسباني للحكم الذاتي مع دستور سنة 1978، الذي جاء في سياق الانتقال الديمقراطي بعد عقود من الحكم المركزي السلطوي. وقد سعى هذا الدستور إلى إعادة تأسيس الدولة على قاعدة الاعتراف بالتعدد، دون المساس بوحدتها. فتم إقرار ما سمي بدولة الجهات ذات الحكم الذاتي، وهي صيغة مبتكرة لم تعتمد الفدرالية الصريحة، لكنها تجاوزت في الآن ذاته حدود اللامركزية الإدارية التقليدية. وبذلك اختارت إسبانيا نموذجا وسطا يقوم على وحدة الدولة مع توزيع واسع للسلطة السياسية ترابيا.
يقوم هذا النموذج على الاعتراف الدستوري بالجماعات ذات الحكم الذاتي باعتبارها مكونات أساسية في التنظيم الترابي للدولة، لكل واحدة منها نظام أساسي للحكم الذاتي يحدد مؤسساتها واختصاصاتها. ويعد هذا النظام الأساسي بمثابة دستور جهوي، يصادق عليه البرلمان الوطني، لكنه يعكس في مضمونه خصوصيات الجهة المعنية. وبهذا المعنى، فإن الحكم الذاتي في إسبانيا ليس منحة إدارية، بل وضع دستوري مؤطر بنصوص ذات قيمة قانونية عليا.
وتتجسد الطبيعة السياسية للحكم الذاتي الإسباني في إحداث برلمانات جهوية منتخبة تتمتع بسلطات تشريعية حقيقية في مجالات واسعة، إلى جانب حكومات جهوية مسؤولة سياسيا أمام هذه البرلمانات. ويشكل هذا العنصر نقطة قوة مركزية في النموذج، إذ ينقل الحكم الذاتي من مستوى التدبير المحلي إلى مستوى الفعل السياسي الجهوي، ويمنح الساكنة المحلية قدرة فعلية على التأثير في السياسات العمومية التي تهمها مباشرة. فالتشريع الجهوي لا يقتصر على التنظيم الإداري، بل يمتد إلى مجالات التعليم، والثقافة، والصحة، والتخطيط، والتنمية الاقتصادية، وفق ما ينص عليه النظام الأساسي لكل جهة.
غير أن هذه السعة في الصلاحيات لا تعني غياب الدولة المركزية، إذ يحتفظ الدستور الإسباني للدولة بالاختصاصات السيادية الأساسية، مثل الدفاع، والعلاقات الخارجية، والعملة، والنظام القضائي العام. ويقوم التوازن الدستوري في هذا النموذج على مبدأ توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهات، مع إقرار رقابة دستورية صارمة تمارسها المحكمة الدستورية، التي تضطلع بدور محوري في فض النزاعات الاختصاصية، وضمان احترام وحدة النظام القانوني.
ومن الخصائص اللافتة في النموذج الإسباني ما يسمى بعدم التماثل في الحكم الذاتي، حيث لا تتمتع جميع الجهات بنفس مستوى الصلاحيات. فقد تم الاعتراف منذ البداية بخصوصية بعض الأقاليم التي تمتلك هوية لغوية وثقافية قوية، مثل كاتالونيا والباسك، ومنحت صلاحيات أوسع مقارنة بجهات أخرى. وقد سمح هذا التدرج غير المتماثل باستيعاب مطالب تاريخية دون فرض نموذج موحد على جميع الجهات، لكنه في المقابل فتح نقاشا واسعا حول العدالة الترابية وتوازن السلطة داخل الدولة.
ويكتسي هذا البعد غير المتماثل أهمية خاصة في سياق المقارنة، لأنه يظهر كيف يمكن للحكم الذاتي أن يكون أداة مرنة لمعالجة وضعيات خاصة، دون تعميمها على باقي التراب الوطني. غير أن هذه المرونة ذاتها حملت في التجربة الإسبانية توترات سياسية حادة، خاصة حين تحولت بعض الجهات من المطالبة بالحكم الذاتي إلى المطالبة بتوسيع صلاحياته نحو أفق سيادي. ويبرز هنا التحدي المركزي للنموذج الإسباني، المتمثل في صعوبة ضبط الحدود الفاصلة بين الحكم الذاتي الواسع والنزعة الانفصالية.
وقد كشفت الأزمات الدستورية التي عرفتها إسبانيا في العقد الأخير أن الحكم الذاتي، مهما بلغت درجة تطوره، لا يشكل في حد ذاته ضمانة تلقائية للاستقرار، إذا لم يقترن بثقافة دستورية مشتركة، وباحترام متبادل لقواعد اللعبة المؤسسية. فالتوترات التي نشأت حول تأويل الصلاحيات، وحول العلاقة بين الشرعية الجهوية والشرعية الوطنية، أظهرت أن الحكم الذاتي يحتاج إلى آليات دائمة للحوار والتنسيق، وإلى وضوح دستوري يمنع التأويلات المتعارضة.
ومع ذلك، لا يمكن اختزال النموذج الإسباني في هذه التوترات، لأنه حقق، في مجمله، نجاحا ملحوظا في إدماج التعدد اللغوي والثقافي، وفي تقريب القرار العمومي من المواطنين، وفي تحويل الدولة من بنية مركزية صلبة إلى بنية مرنة قادرة على استيعاب الاختلاف. كما أن هذا النموذج وفر إطارا دستوريا لتجربة طويلة من التعايش بين المركز والجهات، رغم ما شابها من أزمات.
ومن زاوية المقارنة، يقدم النموذج الإسباني دروسا بالغة الأهمية لأي مشروع حكم ذاتي في سياق نزاع ترابي. فهو يبين أن منح صلاحيات سياسية وتشريعية حقيقية للجهة يمكن أن يعزز الشعور بالمشاركة والانتماء، لكنه يبرز أيضا ضرورة وضع حدود دستورية واضحة لا يمكن تجاوزها، خاصة في ما يتعلق بالسيادة ووحدة الدولة. كما يظهر أن عدم التماثل في الحكم الذاتي قد يكون أداة ناجعة لمعالجة الخصوصيات، شريطة ألا يتحول إلى مدخل لإعادة التفاوض المستمر حول شكل الدولة.
وفي ضوء ذلك، فإن استلهام النموذج الإسباني لا يعني نقله أو تكراره، بل استيعاب منطقه الدستوري، واستخلاص عناصر القوة فيه، وتجنب مكامن الهشاشة التي كشفت عنها تجربته. فالحكم الذاتي، كما يظهر في الحالة الإسبانية، ليس مجرد هندسة قانونية، بل مسار سياسي طويل يتطلب نضجا مؤسساتيا، وثقافة دستورية راسخة، وقدرة مستمرة على التوازن بين الوحدة والتعدد.
وبذلك يغدو النموذج الإسباني مرجعا غنيا في التفكير المقارن، لا بوصفه نموذجا مثاليا، بل بوصفه تجربة واقعية بكل تناقضاتها، تتيح فهما أعمق لتعقيدات الحكم الذاتي كحل دستوري للنزاعات الترابية، وتؤكد أن نجاح هذا الحل لا يتوقف على سعة الصلاحيات وحدها، بل على كيفية تأطيرها، وضبطها، وإدراجها ضمن مشروع وطني جامع.
ثالثا، النموذج الفنلندي للحكم الذاتي: حماية الهوية اللغوية عبر الضمانات الدستورية والدولية
يشكل النموذج الفنلندي للحكم الذاتي واحدا من أكثر النماذج المقارنة تميزا في الفكر الدستوري المعاصر، لا بسبب اتساع الصلاحيات السياسية، بل بسبب دقة البناء القانوني، وعمق الضمانات الدولية، ونجاحه العملي في معالجة نزاع هوياتي ولغوي دون المساس بوحدة الدولة. وتكمن أهمية هذا النموذج في كونه يبرز مسارا مختلفا عن النماذج ذات الطابع السياسي الواسع، إذ يقوم على منطق حماية الأقلية وضمان الاستقرار عبر أدوات قانونية ودستورية محكمة، لا عبر نقل سلطات سيادية أو تشريعية موسعة.
يرتبط النموذج الفنلندي أساسا بتجربة جزر أولاند، وهي أرخبيل يتمتع بوضع خاص داخل دولة فنلندا، وقد نشأ هذا الوضع في سياق نزاع تاريخي بين فنلندا والسويد عقب استقلال فنلندا سنة 1917. فقد طالب سكان الجزر، الذين ينتمون ثقافيا ولغويا إلى الفضاء السويدي، بالانضمام إلى السويد، ما أدى إلى طرح القضية على عصبة الأمم. وقد شكل قرار هذه الأخيرة سنة 1921 نقطة تأسيسية في تاريخ الحكم الذاتي المعاصر، حيث تم اعتماد حل يقوم على إبقاء الجزر تحت السيادة الفنلندية، مقابل منحها حكما ذاتيا موسعا وضمانات دولية لحماية هويتها اللغوية والثقافية.
ومنذ ذلك التاريخ، تطور الحكم الذاتي في جزر أولاند ليصبح جزءا لا يتجزأ من النظام الدستوري الفنلندي، حيث تم تقنينه عبر قوانين خاصة ذات قيمة دستورية، يتم تعديلها وفق مساطر مشددة تتطلب موافقة برلمان الجزر والبرلمان الوطني معا. ويكشف هذا المعطى عن الطابع التعاقدي العميق للحكم الذاتي في النموذج الفنلندي، إذ لا ينظر إليه بوصفه امتيازا تمنحه الدولة ويمكنها سحبه بإرادتها المنفردة، بل باعتباره وضعا قانونيا مستقرا محميا بنصوص عليا.
ويتميز هذا النموذج بكونه يركز على الحكم الذاتي الثقافي واللغوي أكثر من تركيزه على الحكم الذاتي السياسي. فالجزر تتوفر على برلمان محلي منتخب، يتمتع بصلاحيات تشريعية في مجالات محددة، مثل التعليم، والثقافة، والتنظيم الإداري المحلي، وبعض جوانب الاقتصاد، دون أن يمتد هذا الاختصاص إلى المجالات السيادية أو السياسية الكبرى. وتظل الدولة المركزية محتفظة بالدفاع، والعلاقات الخارجية، والنظام القضائي العام، والسياسة النقدية، بما يكرس وحدة السيادة بصورة واضحة وغير قابلة للتأويل.
وتكمن قوة النموذج الفنلندي في وضوح هذا التحديد الدقيق للاختصاصات، حيث لا يوجد مجال واسع للتداخل أو التنازع بين الدولة والجهة ذات الحكم الذاتي. فالقانون يحدد بشكل صارم ما يدخل ضمن اختصاص الجزر وما يبقى من صلاحيات الدولة، كما أن أي تعديل لهذا التوازن يخضع لمساطر توافقية مشددة. وقد ساهم هذا الوضوح في تجنب كثير من الأزمات الدستورية التي عرفتها نماذج أخرى، حيث غالبا ما يكون الغموض في توزيع الصلاحيات مصدرا للتوتر السياسي.
ويرتبط الحكم الذاتي في النموذج الفنلندي بضمانات دولية فريدة، تتمثل في إشراف المجتمع الدولي، تاريخيا، على احترام الوضع الخاص للجزر، خاصة في ما يتعلق بحماية اللغة السويدية ونزع السلاح. فقد تم إقرار مبدأ نزع السلاح الدائم لجزر أولاند، ومنع وجود أي قوات عسكرية فيها، وهو عنصر يعكس الطابع الوقائي للحل المعتمد، ويهدف إلى طمأنة السكان المحليين وإزالة أي مخاوف أمنية. ويضفي هذا البعد الدولي على الحكم الذاتي مصداقية إضافية، ويعزز ثقة السكان في استمرارية الوضع القانوني الخاص.
غير أن هذه الضمانات الدولية لا تعني تدويل الحكم الذاتي أو تقليص سيادة الدولة، بل تندرج ضمن منطق دعم حل داخلي توافق عليه الأطراف المعنية. فالدولة الفنلندية ظلت تمارس سيادتها الكاملة على الإقليم، دون أن يشكل الحكم الذاتي قيدا على وحدتها أو استقلال قرارها السياسي. ويبرز هنا توازن دقيق بين البعد الدولي والبعد السيادي، حيث يتم استثمار الضمانات الدولية لتعزيز الاستقرار، لا لخلق وصاية خارجية.
ومن الخصائص اللافتة في النموذج الفنلندي تركيزه على البعد اللغوي بوصفه جوهر الحكم الذاتي. فاللغة السويدية هي اللغة الرسمية الوحيدة في الجزر، وتتمتع بحماية دستورية صارمة، لا يمكن تعديلها إلا بموافقة سكان الإقليم. ويعكس هذا الاختيار إدراكا عميقا بأن النزاع لم يكن نزاعا سياسيا حول السلطة، بل نزاعا هوياتيا حول اللغة والانتماء الثقافي. ومن ثم فإن معالجة جذور النزاع اقتضت التركيز على هذا البعد، بدل الانشغال بتوسيع الصلاحيات السياسية.
ويقدم هذا التركيز درسا مهما في التفكير المقارن، مفاده أن الحكم الذاتي لا ينبغي أن يكون دائما سياسيا في جوهره، بل قد يكون ثقافيا أو لغويا أو اجتماعيا، بحسب طبيعة النزاع. فالنموذج الفنلندي يبين أن منح سلطات تشريعية محدودة، مقرونة بحماية قوية للهوية، قد يكون أكثر فعالية من نقل صلاحيات سياسية واسعة، إذا كان النزاع في أساسه نزاعا هوياتيا لا نزاعا حول توزيع السلطة.
كما يتميز النموذج الفنلندي بدرجة عالية من الاندماج بين الحكم الذاتي والدولة، حيث لا ينظر إلى الجزر باعتبارها كيانا منفصلا نفسيا أو سياسيا، بل جزءا من الدولة يتمتع بخصوصية معترف بها. ويساهم هذا الاندماج في تعزيز الولاء للدولة، وتقليص النزعات الانفصالية، وتحويل الحكم الذاتي إلى إطار للاستقرار لا إلى مرحلة انتقالية نحو الانفصال.
ومن زاوية المقارنة، يبرز النموذج الفنلندي باعتباره نموذجا منخفض التوتر، قليل الأزمات، يعتمد على القانون أكثر مما يعتمد على السياسة، وعلى التوافق أكثر مما يعتمد على الصراع. وهو ما يجعله نموذجا ملائما للاستلهام في الحالات التي يكون فيها النزاع الترابي مرتبطا بالهوية واللغة، أكثر من ارتباطه بمطالب سيادية أو سياسية جذرية.
وفي ضوء ذلك، يمكن القول إن النموذج الفنلندي يقدم فهما خاصا للحكم الذاتي، يقوم على فكرة أن الاعتراف المؤسسي بالخصوصية، إذا تم في إطار قانوني واضح ومحصن، يمكن أن يكون كافيا لتحقيق الاستقرار دون الحاجة إلى إعادة توزيع عميق للسلطة السياسية. فهو نموذج يراهن على الدستور والقانون والضمانات، لا على التنازلات السياسية الواسعة، ويبرهن على أن الحكم الذاتي ليس وصفة واحدة، بل حلول متعددة تتكيف مع طبيعة كل نزاع.
وبذلك، يشكل النموذج الفنلندي مرجعا مهما في التفكير المقارن حول الحكم الذاتي، لأنه يوسع أفق الفهم، ويبين أن نجاح الحكم الذاتي لا يقاس بحجم الصلاحيات، بل بمدى ملاءمتها لطبيعة المشكلة، وبقدرة الإطار القانوني على حمايتها وضمان استدامتها داخل دولة موحدة ذات سيادة.
رابعا، النموذج الإيطالي للحكم الذاتي: الحكم الذاتي الوظيفي كآلية لتفكيك النزاعات الهوياتية
يشكل النموذج الإيطالي للحكم الذاتي أحد أكثر النماذج المقارنة ثراء من حيث الدروس الدستورية والسياسية، لأنه نشأ في سياق نزاع لغوي وهوياتي حاد، وتمت معالجته عبر هندسة قانونية دقيقة جمعت بين الحكم الذاتي الواسع والحفاظ الصارم على وحدة الدولة. وتكمن أهمية هذا النموذج في كونه يبرهن على أن الحكم الذاتي يمكن أن يكون أداة ناجعة لتفكيك نزعات انفصالية خطيرة، إذا ما صمم بوصفه حلا وظيفيا ومؤسساتيا، لا مجرد تنازل سياسي ظرفي.
يرتبط النموذج الإيطالي أساسا بتجربة إقليم جنوب تيرول، وهو إقليم يقع شمال دولة إيطاليا، ويتميز بخصوصية لغوية وثقافية واضحة، حيث يشكل الناطقون بالألمانية أغلبية سكانية. وقد أفرز هذا الوضع، عقب الحرب العالمية الأولى وضم الإقليم إلى إيطاليا، توترات سياسية وهوياتية عميقة، غذتها سياسات مركزية قسرية خلال فترات تاريخية معينة. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبح النزاع في جنوب تيرول قضية دولية، خاصة مع تدخل النمسا بوصفها دولة حامية للأقلية الألمانية.
وقد شكل الاتفاق الموقع سنة 1946 بين إيطاليا والنمسا، المعروف باتفاق غروبر دي غاسپيري، الأساس القانوني للحكم الذاتي في جنوب تيرول. ويعد هذا الاتفاق من أبرز الأمثلة على تداخل البعدين الداخلي والدولي في تصميم الحكم الذاتي، إذ تم تثبيته في الدستور الإيطالي، وفي الوقت ذاته خضع لمتابعة دولية لضمان احترام بنوده. ويكشف هذا المسار عن إدراك مبكر بأن معالجة النزاع لا يمكن أن تتم فقط عبر حلول إدارية، بل تتطلب التزاما دستوريا واضحا وآليات رقابة فعالة.
ويتميز النموذج الإيطالي بكونه نموذجا للحكم الذاتي الوظيفي، حيث لا يقوم على نقل سيادة سياسية، بل على تمكين الإقليم من أدوات قانونية ومؤسساتية دقيقة لإدارة شؤونه الخاصة، خاصة في المجالات التي تمس الهوية واللغة والتنمية المحلية. فإقليم جنوب تيرول يتمتع ببرلمان محلي منتخب، وحكومة إقليمية مسؤولة أمامه، تمارس صلاحيات تشريعية وتنفيذية واسعة في مجالات التعليم، والثقافة، والتخطيط الترابي، والاقتصاد المحلي، مع احتفاظ الدولة المركزية بالاختصاصات السيادية الأساسية.
وتكمن إحدى أبرز خصوصيات هذا النموذج في نظام الحماية اللغوية الصارم، الذي يقوم على مبدأ المساواة التامة بين المجموعات اللغوية داخل الإقليم. فقد تم إقرار نظام قانوني يضمن استعمال اللغتين الألمانية والإيطالية في الإدارة، والتعليم، والقضاء، ويمنح كل مجموعة لغوية ضمانات مؤسساتية تحول دون تهميشها. ولا يعد هذا النظام مجرد إجراء إداري، بل ركيزة دستورية للحكم الذاتي، لأنه يعالج جوهر النزاع، المتمثل في الخوف من الذوبان الثقافي وفقدان الهوية.
ويرتبط بهذا البعد اللغوي نظام دقيق لتقاسم الموارد والوظائف العمومية، يهدف إلى ضمان التوازن بين المكونات السكانية. فالوصول إلى الوظائف العمومية، والاستفادة من الخدمات، يخضع لمعايير تراعي التعدد اللغوي، بما يمنع احتكار السلطة أو الثروة من طرف فئة واحدة. وقد ساهم هذا النظام في نزع فتيل التوتر الاجتماعي، وتحويل التعدد اللغوي من مصدر صراع إلى إطار قانوني منظم للتعايش.
ومن الناحية الدستورية، يتميز النموذج الإيطالي بوضوح توزيع الاختصاصات بين الدولة والإقليم، مع وجود آليات قوية للتحكيم الدستوري. فالمحكمة الدستورية الإيطالية تضطلع بدور أساسي في مراقبة احترام حدود الحكم الذاتي، سواء تعلق الأمر بتجاوز الدولة لصلاحيات الإقليم، أو بتوسع غير مشروع للسلطات الإقليمية. ويعكس هذا الدور أهمية الضمان القضائي في إنجاح الحكم الذاتي، إذ يمنع تحول الخلافات السياسية إلى أزمات بنيوية تهدد وحدة الدولة.
كما يتميز النموذج الإيطالي بدرجة عالية من الاستقلال المالي، حيث يحتفظ الإقليم بجزء مهم من العائدات الضريبية المتحصلة داخله، ويعيد توظيفها في مشاريع التنمية المحلية. ولا يعني هذا الاستقلال المالي انفصالا عن الدولة، بل تجسيدا لمبدأ العدالة الترابية، الذي يربط بين تحمل المسؤوليات والتمتع بالموارد. وقد ساهم هذا البعد المالي في تحويل الحكم الذاتي إلى رافعة تنموية حقيقية، عززت الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في الإقليم.
ومن زاوية المقارنة، يقدم النموذج الإيطالي درسا بالغ الأهمية، يتمثل في أن الحكم الذاتي يكون أكثر فاعلية حين يركز على حل مشكلات محددة بدقة، بدل تبني مقاربات عامة وفضفاضة. فالنزاع في جنوب تيرول لم يكن نزاعا حول الاستقلال، بقدر ما كان نزاعا حول اللغة والتمثيل والعدالة في توزيع الموارد. ولذلك جاء الحل مصمما لمعالجة هذه الجوانب تحديدا، عبر أدوات قانونية دقيقة، لا عبر شعارات سياسية واسعة.
غير أن هذا النموذج لم يخل من صعوبات، خاصة في مراحله الأولى، حيث عرف توترات وأعمال عنف محدودة قبل استكمال تنزيل الحكم الذاتي في صيغته النهائية. غير أن استقرار النموذج على المدى الطويل يبرهن على أن الاستثمار في الحلول الدستورية والمؤسساتية، مهما بدا بطيئا أو معقدا، يظل أكثر نجاعة من الحلول القسرية أو الأمنية.
وفي سياق التفكير في استلهام هذا النموذج، يبرز عنصر أساسي يتمثل في ضرورة التمييز بين الحكم الذاتي بوصفه حلا وظيفيا، والحكم الذاتي بوصفه مشروعا سياديا. فالتجربة الإيطالية تبين أن منح صلاحيات واسعة في مجالات محددة، مقرونة بضمانات لغوية وثقافية قوية، قد يكون كافيا لتفكيك نزاع ترابي معقد، دون الحاجة إلى إعادة تعريف شكل الدولة أو المساس بوحدتها.
وبذلك، يقدم النموذج الإيطالي رؤية متقدمة للحكم الذاتي، تقوم على الدقة القانونية، والوضوح الدستوري، والتركيز على جوهر النزاع، لا على مظاهره. وهو نموذج يؤكد أن الحكم الذاتي ليس مسألة حجم الصلاحيات، بل مسألة ملاءمتها، وأن نجاحه رهين بقدرته على تحويل التعدد من عامل توتر إلى مورد للاستقرار داخل دولة موحدة ذات سيادة كاملة.
خامسا، النموذج الدنماركي للحكم الذاتي: التدرج والمرونة القانونية في إدارة الخصوصيات الترابية
يشكل النموذج الدنماركي للحكم الذاتي واحدا من أكثر النماذج المقارنة تميزا من حيث اعتماده منطق التدرج والمرونة السياسية في نقل الصلاحيات، ومن حيث قدرته على التوفيق بين سيادة الدولة ووضعيات جغرافية وثقافية خاصة ذات امتدادات دولية. وتكمن أهمية هذا النموذج في كونه لا يقدم الحكم الذاتي بوصفه وضعا نهائيا جامدا، بل باعتباره مسارا مؤسساتيا متحولا، يخضع للتقييم المستمر، ويتطور تبعا لمدى نضج المؤسسات المحلية وقدرتها على تحمل المسؤوليات. ومن ثم فإن دراسة هذا النموذج تكتسي قيمة خاصة في التفكير المقارن، لأنه يبرز بعدا زمنيا للحكم الذاتي غالبا ما يغيب في النماذج الأخرى.
يرتبط النموذج الدنماركي أساسا بتجربتي جرينلاند وجزر فارو، وهما إقليمان يتمتعان بوضع حكم ذاتي موسع داخل مملكة الدنمارك. وقد نشأ هذا الوضع في سياق تاريخي خاص، حيث كانت هذه الأقاليم خاضعة للسيادة الدنماركية، لكنها تمتلك خصوصيات لغوية وثقافية وجغرافية عميقة، جعلت إدماجها في نموذج مركزي صارم أمرا غير ممكن على المدى الطويل. ومن ثم اختارت الدولة الدنماركية مقاربة قائمة على التفاوض والتدرج، بدل الإكراه أو الإنكار.
بدأ الحكم الذاتي في جزر فارو سنة 1948، عبر قانون خاص منح الإقليم سلطات واسعة في تدبير شؤونه الداخلية، خاصة في مجالات التعليم، والثقافة، والاقتصاد المحلي، مع احتفاظ الدولة المركزية بالاختصاصات السيادية الأساسية. وقد شكل هذا القانون نقطة تحول في علاقة الدولة بالإقليم، إذ اعترف بخصوصيته، ومنحه مؤسسات منتخبة ذات شرعية سياسية محلية. غير أن ما يميز هذه التجربة ليس فقط مضمون الصلاحيات، بل المنطق الذي حكمها، وهو منطق الثقة المتدرجة، حيث لم يتم نقل جميع الصلاحيات دفعة واحدة، بل تم فتح مسار يسمح بتوسيعها تدريجيا وفق الحاجة والقدرة.
وتعمق هذا المنطق أكثر في تجربة جرينلاند، التي انتقلت من وضع إقليمي تابع إلى وضع حكم ذاتي موسع سنة 1979، ثم إلى نظام الحكم الذاتي المعزز سنة 2009. ويكشف هذا التطور عن فلسفة دستورية واضحة، مفادها أن الحكم الذاتي ليس مرحلة انتقالية مفروضة نحو الانفصال، ولا وضعا نهائيا مغلقا، بل إطار قانوني يسمح للإقليم بتولي مزيد من الصلاحيات كلما توفرت الشروط السياسية والمؤسساتية. ويعكس هذا المسار وعيا عميقا بتعقيد العلاقة بين المركز والأقاليم البعيدة جغرافيا والثقافية.
ويتميز النموذج الدنماركي بكونه يمنح الأقاليم ذات الحكم الذاتي صلاحيات سياسية وتنفيذية واسعة في مجالات متعددة، تشمل الإدارة الداخلية، والتعليم، والثقافة، والشرطة المحلية، والقضاء في بعض الجوانب، إضافة إلى تدبير الموارد الطبيعية. وفي المقابل، تحتفظ الدولة المركزية بالسياسة الخارجية، والدفاع، والعملة، والتمثيل الدولي، مع إشراك الأقاليم في بعض جوانب القرار الخارجي حين تكون مصالحها المباشرة معنية. ويبرز هنا منطق الشراكة، لا الهيمنة، في تدبير العلاقة بين الدولة والإقليم.
ومن الخصائص اللافتة في النموذج الدنماركي الاعتراف الصريح بحق تقرير المصير في بعده المستقبلي، خاصة في حالة جرينلاند، حيث ينص القانون على إمكانية استقلال الإقليم إذا عبر السكان عن ذلك ديمقراطيا. غير أن هذا الاعتراف لم يؤد إلى تفكك الدولة أو إلى تسريع الانفصال، بل على العكس، ساهم في تهدئة التوترات، وتعزيز الثقة، وتحويل العلاقة إلى علاقة تعاقدية واضحة. ويكشف هذا المعطى أن الاعتراف القانوني بالإمكانية لا يعني بالضرورة تحققها، بل قد يكون أداة لإدارة التطلعات بدل قمعها.
ويرتبط الحكم الذاتي في النموذج الدنماركي أيضا ببعد اقتصادي ومالي مهم، حيث تتمتع الأقاليم بقدر كبير من الاستقلال المالي، وتدير مواردها الطبيعية، خاصة في جرينلاند الغنية بالثروات المعدنية. ويتم تنظيم العلاقة المالية بين الدولة والإقليم عبر آليات دعم مالي واضحة وشفافة، تضمن استمرارية الخدمات العمومية، دون تحويل الحكم الذاتي إلى عبء اقتصادي على الإقليم أو على الدولة. ويبرز هذا البعد أهمية التمويل في إنجاح الحكم الذاتي، لأن نقل الصلاحيات دون موارد كافية يؤدي إلى فشل التجربة أو إلى تبعيتها المستمرة للمركز.
ومن زاوية الضمانات، يعتمد النموذج الدنماركي على القانون أكثر مما يعتمد على الرقابة السياسية الصدامية. فالعلاقة بين الدولة والأقاليم يحكمها إطار قانوني واضح، وآليات مؤسساتية لحل الخلافات، دون لجوء متكرر إلى القضاء الدستوري أو الأزمات السياسية الحادة. ويعكس هذا الاستقرار ثقافة سياسية قائمة على التوافق، واحترام القواعد، وتغليب الحلول التفاوضية على المواجهة.
غير أن هذا النموذج لا يخلو من تحديات، خاصة في ما يتعلق بتوازن العلاقة بين الطموحات المحلية والالتزامات الدولية للدولة. فالدنمارك، بحكم موقعها في النظام الدولي، تتحمل مسؤوليات دفاعية واستراتيجية، قد تتقاطع أحيانا مع تطلعات الأقاليم ذات الحكم الذاتي، خاصة في المناطق ذات الأهمية الجيوسياسية مثل جرينلاند. غير أن معالجة هذه التحديات تتم، في الغالب، عبر الحوار المؤسسي، لا عبر فرض الأمر الواقع.
ومن زاوية المقارنة، يقدم النموذج الدنماركي درسا بالغ الأهمية، يتمثل في أن الحكم الذاتي يكون أكثر استقرارا حين يتم بناؤه كمسار مفتوح، لا كحل نهائي مغلق. فالتدرج في نقل الصلاحيات، والاعتراف بالتطلعات، وتوفير الضمانات القانونية، كلها عناصر تساهم في تحويل الحكم الذاتي من مصدر محتمل للتوتر إلى إطار مرن لإدارة العلاقة بين الدولة وأقاليمها.
كما يبين هذا النموذج أن الحكم الذاتي لا ينبغي أن يقاس فقط بحجم الصلاحيات المنقولة، بل بنوعية العلاقة السياسية التي يؤسسها. فحين تقوم هذه العلاقة على الثقة والتعاقد والوضوح، يصبح الحكم الذاتي أداة للاستقرار، حتى في السياقات الجغرافية والثقافية المعقدة. أما حين يقوم على الإكراه أو الغموض، فإنه يتحول إلى عامل هشاشة مهما بلغت درجة توسعه.
وبذلك، يشكل النموذج الدنماركي مرجعا مهما في التفكير المقارن حول الحكم الذاتي، لأنه يوسع مفهومه ليشمل البعد الزمني والتطوري، ويؤكد أن نجاح الحكم الذاتي لا يتحقق فقط عبر النصوص، بل عبر إدارة ذكية للزمن السياسي، وللتطلعات المحلية، وللعلاقة بين المركز والأطراف. وهو نموذج يبرز أن الدولة القوية ليست تلك التي تفرض وحدتها بالقوة، بل تلك التي تنجح في تنظيم التنوع داخلها، عبر حلول مرنة وقابلة للتطور، دون التفريط في سيادتها أو تماسكها.
سادسا، الأسس السيادية والدستورية غير القابلة للتفاوض في نموذج الحكم الذاتي المغربي:
ينبني النموذج المغربي للحكم الذاتي في الصحراء المغربية على مجموعة من الأسس المرجعية التي لا يمكن التعامل معها بوصفها عناصر تقنية قابلة للأخذ والرد، بل باعتبارها ثوابت سيادية ودستورية تؤطر إمكان الحكم الذاتي نفسه وتحدد مجاله ووظيفته. فالحكم الذاتي، في التصور المغربي، ليس إطارا لتقاسم السيادة ولا مدخلا لإعادة تعريف الدولة، بل هو صيغة متقدمة لتنظيم السلطة داخل دولة موحدة، غايتها تدبير التنوع الترابي والاجتماعي في إطار وحدة سياسية وقانونية غير قابلة للتجزئة. ومن ثم فإن أول هذه الأسس يتمثل في السيادة الوطنية الكاملة للدولة المغربية على الإقليم، وهي سيادة لا تكتسب مشروعيتها فقط من النصوص القانونية أو المواقف الدولية، بل من الامتداد التاريخي والمؤسساتي للدولة المغربية في الصحراء، ومن ممارسة فعلية للسلطة السياسية والإدارية والتنموية. فالحكم الذاتي لا ينشئ سيادة محلية موازية، ولا يعترف بوجود كيان سياسي مستقل داخل الدولة، بل يفترض مسبقا وجود سيادة قائمة يمارس الحكم الذاتي داخلها بوصفه شكلا من أشكال التفويض الدستوري لا التنازل السيادي.
وتتصل بهذه السيادة مسألة وحدة الدولة المغربية، باعتبارها دولة موحدة ذات نظام دستوري واحد، لا دولة فدرالية ولا كونفدرالية. فالوحدة هنا ليست مجرد شعار سياسي، بل هي مبدأ دستوري مؤسس يحدد طبيعة توزيع السلطة وحدودها. فالحكم الذاتي المغربي لا يقوم على ازدواجية السلطة التأسيسية، ولا يمنح الجهة ذات الحكم الذاتي حق تعديل شكل الدولة أو إعادة تعريف علاقتها بالمركز، بل يندرج ضمن منطق التفريع الوظيفي للسلطة داخل إطار وحدوي. وهذا ما يميزه عن نماذج الحكم الذاتي التي نشأت في سياقات إعادة تأسيس الدولة أو إعادة التعاقد بين كيانات سياسية متمايزة. ففي الحالة المغربية، لا يتعلق الأمر بتسوية بين دولتين أو قوميتين، بل بتنظيم داخلي للسلطة داخل دولة تاريخية متواصلة.
ومن هذا المنطلق، يشكل حصر الاختصاصات السيادية في يد الدولة المركزية ركنا أساسيا لا يقبل المساومة. فالسيادة، بوصفها ممارسة فعلية للسلطة العليا، تتجسد في مجالات محددة لا يمكن نقلها أو تقاسمها دون المساس بوحدة الدولة، وفي مقدمتها الدفاع الوطني والأمن الاستراتيجي، باعتبارهما التعبير الأقصى عن احتكار الدولة للعنف المشروع وحماية المجال الترابي. كما تشمل هذه الاختصاصات السياسة الخارجية والتمثيل الدولي، لأن الدولة لا يمكن أن تتحدث بأكثر من صوت واحد في النظام الدولي، ولا يمكن أن تسمح بوجود فاعلين جهويين يتمتعون بصفة دولية مستقلة. وتندرج ضمن هذه الاختصاصات كذلك العملة والسياسة النقدية، باعتبارهما من ركائز السيادة الاقتصادية، ثم السلطة القضائية العليا ووحدة النظام القانوني، لأن تعدد المرجعيات القضائية النهائية يؤدي بالضرورة إلى تفكيك وحدة الدولة القانونية.
ولا يعني هذا التحديد الصارم للاختصاصات السيادية أن الحكم الذاتي المغربي مجرد لامركزية إدارية موسعة، بل يعني أن الحكم الذاتي يمارس في المجالات التي لا تمس جوهر السيادة، لكنه يمارس فيها ممارسة فعلية وحقيقية. فالثابت السيادي لا يلغي الدينامية التدبيرية، بل يؤطرها ويمنحها معناها. ومن هنا تبرز خصوصية النموذج المغربي الذي يميز بين السيادة بوصفها ملكية نهائية للسلطة، والحكم الذاتي بوصفه طريقة عقلانية لتوزيع ممارسة هذه السلطة في مجالات محددة.
ويتفرع عن هذه الأسس السيادية بعد دستوري لا يقل أهمية، ويتمثل في أن الحكم الذاتي المغربي ليس نظاما انتقاليا ولا حلا ظرفيا، بل خيارا دستوريا قابلا للاستدامة. فالحكم الذاتي، في هذا التصور، يجب أن يكون مؤطرا بنصوص دستورية واضحة تحدد مجاله، وتضمن استمراريته، وتمنع تحوله إلى أداة للابتزاز السياسي أو إعادة فتح النزاع في كل مرحلة. فالدسترة هنا ليست فقط أداة قانونية، بل آلية لإقفال النزاع داخل إطار مؤسساتي دائم، وتحويله من صراع سياسي مفتوح إلى مسألة تدبير عمومي منظم.
كما أن هذه الأسس المرجعية تنطوي على بعد رمزي عميق، يتمثل في ارتباط الحكم الذاتي المغربي بمنظومة الشرعية الوطنية، وفي مقدمتها إمارة المؤمنين بوصفها مؤسسة جامعة تؤطر وحدة الدولة والأمة. فهذه المؤسسة لا تمارس سلطة سياسية إجرائية في تدبير الحكم الذاتي، لكنها تشكل سقفا رمزيا أعلى للشرعية، بما يضمن وحدة المرجعية الدينية والسياسية، ويمنع تشكل هويات سياسية متنازعة داخل الدولة. وهذا البعد الرمزي، وإن كان مغيبا في كثير من النماذج المقارنة، يمثل عنصرا حاسما في السياق المغربي، حيث لا يمكن فصل التنظيم الترابي للسلطة عن البنية العميقة للشرعية.
ومن ثم يمكن القول إن الأسس المرجعية غير القابلة للتفاوض في النموذج المغربي لا تشكل قيودا على الحكم الذاتي، بل شروط إمكانه. فهي التي تمنحه وضوحا، وتحميه من الانزلاق نحو نماذج غير ملائمة للسياق المغربي، وتجعله قابلا للتسويق الدولي بوصفه حلا جادا وذا مصداقية. فالحكم الذاتي الذي لا يحدد منذ البداية حدوده السيادية، ولا يوضح علاقته بالدولة المركزية، يظل عرضة للتأويلات المتناقضة، وقد يتحول من أداة للحل إلى مصدر جديد للنزاع. أما الحكم الذاتي المؤسس على ثوابت واضحة، فإنه يتحول إلى إطار مستقر لتدبير الاختلاف داخل الوحدة، ويجسد قدرة الدولة المغربية على الابتكار المؤسساتي دون التفريط في سيادتها.
وبذلك يشكل هذا النص القاعدة النظرية والسياسية التي ينبني عليها باقي عناصر النموذج المغربي للحكم الذاتي، إذ لا يمكن الحديث عن هندسة مؤسساتية أو توزيع اختصاصات أو حماية خصوصيات محلية، دون ترسيخ هذا الإطار المرجعي الذي يحدد معنى الحكم الذاتي وحدوده ووظيفته. فهو ليس تنازلا سياسيا، ولا حلا اضطراريا، بل اختيار سيادي واع، يستثمر التجارب المقارنة دون أن يخضع لها، ويعيد صياغتها في ضوء تاريخ الدولة المغربية وبنيتها الدستورية ورهاناتها الاستراتيجية.
سابعا، الهندسة المؤسساتية للحكم الذاتي: من التفويض الإداري إلى البناء السياسي الجهوي
يقوم الحكم الذاتي الحقيقي، في أي تجربة دستورية جادة، على بناء مؤسسات واضحة الاختصاصات، متوازنة الصلاحيات، وقابلة للمساءلة، لأن الحكم الذاتي لا يتحقق بالإعلان السياسي ولا بالخطاب الرمزي، بل بالهندسة المؤسساتية التي تنقل السلطة من مستوى النوايا إلى مستوى الممارسة. وفي هذا الإطار، فإن النموذج المغربي للحكم الذاتي في الصحراء المغربية يفترض الانتقال من تصور إداري محدود للجهوية إلى تصور مؤسساتي مكتمل، يجعل من الجهة ذات الحكم الذاتي فضاء سياسيا وتنمويا مسؤولا، دون أن يتحول إلى كيان مواز للدولة أو منافس لها في الشرعية.
تنطلق هذه الهندسة المؤسساتية من مبدأ أساسي مفاده أن الجهة ذات الحكم الذاتي ليست مجرد وحدة ترابية موسعة، بل فضاء لممارسة سلطة عمومية مفوضة، تمارس باسم الدولة وداخلها، لا ضدها ولا بمعزل عنها. ومن ثم فإن أول مكونات هذه الهندسة يتمثل في إحداث برلمان جهوي منتخب انتخابا ديمقراطيا مباشرا، بما يمنح الساكنة المحلية سلطة حقيقية في اختيار ممثليها، ويحول الحكم الذاتي من منحة إدارية إلى تعاقد سياسي داخلي. فالبرلمان الجهوي يشكل قلب الحكم الذاتي، ليس بوصفه هيئة رمزية، بل باعتباره مؤسسة تشريعية جهوية تمارس سلطة وضع القواعد التنظيمية والقانونية في المجالات المنقولة للجهة، في انسجام تام مع الدستور والقوانين الوطنية.
ولا يعني الطابع التشريعي للبرلمان الجهوي أنه ينازع البرلمان الوطني اختصاصه، لأن مجال تدخله يظل محددا بدقة، ويقوم على مبدأ التفويض المقيد لا على السيادة التشريعية الأصلية. فالتشريع الجهوي في هذا السياق ليس تشريعا سياديا، بل تشريع وظيفي مرتبط بحاجيات التنمية والتدبير المحلي، ويخضع من حيث المبدأ لرقابة دستورية تضمن انسجامه مع المنظومة القانونية الوطنية. وإلى جانب الوظيفة التشريعية، يضطلع البرلمان الجهوي بوظيفة رقابية حقيقية على السلطة التنفيذية الجهوية، بما يعزز مبدأ المسؤولية السياسية داخل الجهة، ويمنع تحول الحكم الذاتي إلى إدارة مغلقة أو نخبة غير خاضعة للمحاسبة.
وبموازاة المؤسسة التشريعية الجهوية، تتأسس الحكومة الجهوية باعتبارها الجهاز التنفيذي للحكم الذاتي، وهي حكومة تنبثق عن الأغلبية البرلمانية الجهوية، وتتحمل المسؤولية السياسية أمام البرلمان الجهوي، لا أمام الإدارة المركزية. وهذا المعطى بالغ الأهمية، لأنه ينقل الجهة من منطق التعيين العمودي إلى منطق الشرعية الانتخابية، ويجعل السلطة التنفيذية الجهوية نتاجا لإرادة سياسية محلية معبر عنها ديمقراطيا. وتمارس الحكومة الجهوية صلاحيات فعلية في مجالات التنمية الاقتصادية، والتخطيط الترابي، والاستثمار، والخدمات العمومية الجهوية، وتدبير الميزانية، في إطار الاختصاصات المخولة لها.
غير أن استقلالية الحكومة الجهوية في ممارسة هذه الصلاحيات لا تعني انفصالها عن الدولة، بل تفترض وجود آليات تنسيق واضحة مع السلطة المركزية، خاصة في المجالات المتداخلة، بما يضمن وحدة السياسات العمومية وتكاملها. فالحكم الذاتي، في هذا التصور، لا يقوم على الفصل الصدامي بين المركز والجهة، بل على التكامل الوظيفي بين مستويين للسلطة، لكل منهما مجاله واختصاصه. ومن هنا تبرز أهمية التنصيص على آليات مؤسساتية دائمة للتنسيق، سواء عبر لجان مشتركة، أو عبر تمثيل الدولة داخل الجهة بوظائف محددة لا تمس جوهر الحكم الذاتي.
وتكتمل هذه الهندسة المؤسساتية بإدماج البعد القضائي، من خلال إحداث محاكم جهوية مختصة في النزاعات الإدارية والاقتصادية المرتبطة باختصاصات الجهة. فالقضاء الجهوي، في هذا السياق، لا يشكل نظاما قضائيا مستقلا، ولا ينشئ سلطة قضائية موازية، بل يندرج داخل وحدة القضاء الوطني، مع مراعاة خصوصيات القرب القضائي وسرعة البت في النزاعات المرتبطة بالتدبير الجهوي. ويهدف هذا الترتيب إلى ضمان الأمن القانوني للاستثمار والتنمية، وتعزيز ثقة الفاعلين المحليين في المؤسسات الجهوية، دون المساس بوحدة المرجعية القضائية للدولة.
ولا يمكن إغفال البعد المالي في هذه الهندسة، لأن الحكم الذاتي دون استقلالية مالية نسبية يتحول إلى مجرد نقل شكلي للصلاحيات. ولذلك يفترض النموذج المغربي إحداث نظام مالي جهوي واضح، يقوم على ميزانية جهوية مستقلة، مواردها محددة قانونا، ونفقاتها خاضعة لمراقبة مؤسسات وطنية. فالاستقلال المالي هنا ليس انفصالا ماليا، بل تمكين للجهة من أدوات التخطيط والتنفيذ، مع الحفاظ على مبدأ التضامن الوطني والتوازن بين الجهات. ويشكل هذا البعد المالي شرطا أساسيا لتحويل الحكم الذاتي إلى رافعة تنموية، لا إلى عبء إداري إضافي.
كما تندرج ضمن هذه الهندسة المؤسساتية آليات المشاركة المجتمعية، لأن الحكم الذاتي لا يختزل في المؤسسات المنتخبة فقط، بل يفترض إشراك الفاعلين المحليين، من قبائل، ومنظمات مدنية، وفاعلين اقتصاديين، في بلورة السياسات الجهوية. فإدماج هذه الفئات في آليات التشاور لا يهدد وحدة الدولة، بل يعزز مشروعية الحكم الذاتي، ويجعله تعبيرا عن دينامية اجتماعية حقيقية، لا مجرد هندسة فوقية. ويكتسي هذا المعطى أهمية خاصة في السياق الصحراوي، حيث تلعب البنيات الاجتماعية التقليدية دورا مركزيا في تنظيم الحياة الجماعية.
ومن ثم فإن الهندسة المؤسساتية للحكم الذاتي المغربي تقوم على توازن دقيق بين منطق الديمقراطية المحلية ومنطق وحدة الدولة، وبين نقل السلطة وضبطها، وبين الاستقلال الوظيفي والاندماج الدستوري. فهي لا تستنسخ النماذج المقارنة، لكنها تستفيد من دروسها، خاصة من حيث مركزية البرلمان الجهوي في النموذج الإسباني، ووضوح الصلاحيات في التجربة الإيطالية، وأهمية القرب القضائي في النماذج الأوروبية، دون أن تنقل عناصر لا تنسجم مع البنية الدستورية المغربية.
وبذلك يتحول الحكم الذاتي، من مجرد مقترح سياسي لحل نزاع، إلى مشروع مؤسساتي متكامل، قابل للتطبيق، وقابل للتقييم، وقابل للتطور. فالهندسة المؤسساتية ليست تفصيلا تقنيا، بل هي جوهر الحكم الذاتي نفسه، لأنها التي تحدد من يحكم، وبأي شرعية، وبأي أدوات، وفي أي حدود. ومن دون هذا البناء المؤسساتي الصارم، يفقد الحكم الذاتي مضمونه، ويتحول إما إلى شعار فارغ، أو إلى مصدر جديد للتوتر. أما إذا تأسس على هذه القواعد، فإنه يصبح أداة ذكية لتدبير التنوع داخل الوحدة، وتجسيدا لقدرة الدولة المغربية على الابتكار الدستوري والمؤسساتي في مواجهة رهانات معقدة.
ثامنا، توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة: من منطق السيادة إلى منطق التكامل الوظيفي
يشكل توزيع الاختصاصات بين الدولة المركزية والجهة ذات الحكم الذاتي قلب النموذج المغربي المقترح، لأنه المجال الذي تتحول فيه فكرة الحكم الذاتي من تصور نظري إلى ممارسة مؤسساتية فعلية. فالحكم الذاتي لا يقاس بعدد المؤسسات ولا بتسمياتها، بل بمدى وضوح الصلاحيات المنقولة، وبكيفية ممارستها، وبالضمانات التي تحول دون التداخل المربك أو التنازع السياسي. ومن ثم فإن النموذج المغربي يفترض بناء تصور دقيق لتوزيع الاختصاصات يقوم على مبدأ التكامل الوظيفي لا على منطق الفصل الصدامي، وعلى التفويض المؤطر لا على نقل السلطة النهائية.
ينطلق هذا التصور من تمييز حاسم بين مجال السيادة ومجال التدبير، وهو تمييز جوهري يحدد فلسفة الحكم الذاتي المغربي. فالدولة المركزية تحتفظ، بصورة نهائية وغير قابلة للتأويل، بجميع الاختصاصات السيادية التي تشكل جوهر وجود الدولة ووحدتها، وفي مقدمتها الدفاع الوطني والأمن الاستراتيجي، باعتبارهما التعبير الأعلى عن احتكار الدولة للقوة الشرعية وحماية المجال الترابي. كما تحتفظ بالسياسة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي، لأن وحدة الصوت الخارجي للدولة شرط من شروط الاعتراف الدولي والاستقرار الجيوسياسي. وتندرج ضمن هذا المجال السيادي أيضا السياسة النقدية والعملة، ثم التشريع الجنائي والأساسي، والسلطة القضائية العليا التي تضمن وحدة النظام القانوني وتساوي المواطنين أمام القانون في جميع ربوع الدولة.
غير أن حصر هذه الاختصاصات في يد الدولة لا يعني إفراغ الحكم الذاتي من مضمونه، بل على العكس، يمنحه وضوحا ويجنبه الالتباس. فبموازاة هذا المجال السيادي المحصن، يتم نقل مجموعة واسعة من الاختصاصات التدبيرية والتنموية إلى الجهة ذات الحكم الذاتي، نقلًا حقيقيا لا شكليا، بما يسمح للساكنة المحلية بإدارة شؤونها اليومية واتخاذ القرارات المرتبطة بمستقبلها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ويقوم هذا النقل على قاعدة مفادها أن كل اختصاص لا يمس جوهر السيادة يمكن أن يكون محلا للتفويض الجهوي، شريطة أن يمارس في إطار الدستور والقانون.
وفي هذا السياق، يكتسي مجال التنمية الاقتصادية مكانة مركزية ضمن الاختصاصات الجهوية، إذ تتولى الجهة وضع وتنفيذ استراتيجيات التنمية المحلية، وتدبير الاستثمار، وتشجيع المقاولات، وتثمين الموارد الطبيعية المحلية في إطار السيادة الوطنية. فالجهة ليست مجرد منفذة لسياسات مركزية، بل فاعل تنموي يمتلك سلطة التخطيط واتخاذ القرار في ما يتعلق بالأولويات الاقتصادية، مع التزامها بالاختيارات الكبرى للدولة. ويهدف هذا التمكين الاقتصادي إلى تحويل الحكم الذاتي إلى رافعة تنموية حقيقية، لا إلى صيغة سياسية معزولة عن الواقع الاجتماعي.
ويرتبط بالتنمية مجال التخطيط الترابي والعمراني، الذي يشكل بدوره اختصاصا جوهريا للجهة ذات الحكم الذاتي. فالجهة تتولى إعداد برامج التهيئة، وتنظيم المجال العمراني، وحماية البيئة، وتدبير الموارد الطبيعية المحلية، بما ينسجم مع خصوصيات الإقليم وحاجياته. ويكتسي هذا المجال أهمية خاصة في الصحراء المغربية، حيث تشكل المساحات الشاسعة، والموارد الطبيعية، والاعتبارات البيئية عناصر حاسمة في أي تصور تنموي. ويتيح نقل هذا الاختصاص للجهة تجاوز منطق القرارات المركزية الموحدة، واعتماد مقاربات مرنة ومتكيفة مع الواقع المحلي.
أما في مجال التعليم والثقافة، فيقوم النموذج المغربي على نقل صلاحيات واسعة للجهة، دون المساس بوحدة المنظومة الوطنية. فالجهة تتولى تدبير التعليم الجهوي، وتكييف المناهج والبرامج بما يراعي الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للساكنة، وفي مقدمتها الثقافة الحسانية، مع احترام الإطار الوطني للمناهج والقيم الدستورية. ويهدف هذا التمكين الثقافي إلى جعل الحكم الذاتي أداة للاعتراف بالتنوع، لا وسيلة لإنتاج هويات منغلقة أو متنازعة.
كما يشمل توزيع الاختصاصات مجالات الخدمات العمومية الجهوية، من صحة ونقل وتجهيزات وبنيات تحتية، حيث تتولى الجهة مسؤولية التخطيط والتنفيذ والتدبير، بما يسمح برفع جودة الخدمات وتقريبها من المواطن. ويشكل هذا البعد العملي أحد أهم معايير نجاح الحكم الذاتي، لأن المواطن لا يقيس فعالية النماذج الدستورية بعمقها النظري، بل بقدرتها على تحسين شروط عيشه اليومية.
غير أن نقل هذه الاختصاصات الواسعة لا يمكن أن يتم بمعزل عن آليات ضبط وتنسيق تحول دون التضارب والتنازع. ولذلك يفترض النموذج المغربي إرساء آليات مؤسساتية واضحة لتدبير الاختصاصات المشتركة، أي تلك المجالات التي تتقاطع فيها تدخلات الدولة والجهة، مثل بعض جوانب الاستثمار أو التخطيط أو السياسات الاجتماعية. ففي هذه الحالات، لا يتم اعتماد منطق الاختصاص الحصري، بل منطق التنسيق التعاقدي، عبر اتفاقيات وبرامج مشتركة، ولجان دائمة للتشاور، بما يضمن وحدة السياسات العمومية وتكاملها.
ويكتسي البعد المالي في توزيع الاختصاصات أهمية خاصة، لأن نقل الصلاحيات دون نقل الموارد يؤدي إلى إفراغ الحكم الذاتي من مضمونه. ولذلك يتعين تمكين الجهة من موارد مالية كافية ومحددة قانونا، سواء عبر تحويلات من الدولة، أو عبر موارد جبائية جهوية، مع إخضاعها لمراقبة مالية وطنية صارمة. فالاستقلال المالي النسبي ليس امتيازا سياسيا، بل شرط وظيفي لممارسة الاختصاصات المنقولة بفعالية ومسؤولية.
ومن ثم فإن توزيع الاختصاصات في النموذج المغربي لا يقوم على منطق القطيعة بين المركز والجهة، ولا على ثنائية الهيمنة أو الانفصال، بل على تصور تكاملي يجعل من الحكم الذاتي شكلا متقدما من أشكال اللامركزية السياسية المؤطرة. فهو يستلهم من التجربة الإسبانية وضوح مجالات الاختصاص الجهوي، ومن التجربة الإيطالية دقة التوازن بين المركز والإقليم، ومن النماذج الأوروبية عموما أهمية ضبط الاختصاصات المشتركة، دون أن يستنسخ أي نموذج بصورة حرفية.
وبذلك يتحول توزيع الاختصاصات من مصدر محتمل للتوتر إلى آلية عقلانية لتنظيم السلطة، ومن مجال للصراع السياسي إلى أداة لتدبير الاختلاف داخل الوحدة. فالحكم الذاتي المغربي، حين يؤسس على هذا التوزيع الواضح والمتوازن، يصبح قابلا للتطبيق والاستمرار، وقادرا على الاستجابة لمتطلبات الشرعية الداخلية والدولية في آن واحد، ويجسد انتقال الدولة من منطق التحكم المركزي إلى منطق الثقة المؤطرة، دون التفريط في سيادتها أو وحدتها.
تاسعا، حماية الخصوصية الثقافية والاجتماعية للساكنة الصحراوية كشرط لنجاح الحكم الذاتي:
تشكل حماية الخصوصية الثقافية والاجتماعية للساكنة الصحراوية أحد الأعمدة الجوهرية في النموذج المغربي للحكم الذاتي، ليس باعتبارها بعدا تكميليا أو تجميليا، بل بوصفها شرطا بنيويا لنجاح الحكم الذاتي واستدامته. فالتجارب المقارنة تثبت أن الحكم الذاتي الذي يقتصر على نقل الاختصاصات الإدارية والاقتصادية، دون الاعتراف المؤسسي بالخصوصيات الثقافية والاجتماعية، يظل حكما منقوصا، معرضا للتوتر والرفض، لأن الهوية ليست عنصرا ثانويا في تنظيم السلطة، بل مكونا أساسيا في بناء الشرعية والانتماء. ومن هذا المنطلق، يسعى النموذج المغربي إلى جعل الخصوصية الصحراوية جزءا من البناء الدستوري والمؤسساتي للحكم الذاتي، لا مجرد خطاب ثقافي مواز.
ينطلق هذا التصور من مبدأ أساسي مفاده أن الاعتراف بالخصوصية لا يعني القطيعة مع الهوية الوطنية الجامعة، ولا يؤدي إلى خلق هوية سياسية منفصلة، بل يندرج ضمن منطق التنوع داخل الوحدة. فالثقافة الحسانية، بما تحمله من لغة وتقاليد وأعراف ونمط عيش، ليست ثقافة هامشية أو طارئة، بل مكون أصيل من مكونات الهوية المغربية، ساهم تاريخيا في تشكيل المجال الثقافي والاجتماعي للمغرب. ومن ثم فإن إدماج هذه الخصوصية في نموذج الحكم الذاتي لا يشكل استثناء، بل تجسيدا لمقاربة دستورية تعترف بتعدد الروافد الثقافية داخل وحدة الدولة.
وفي هذا السياق، يحتل البعد الثقافي مكانة مركزية، حيث يفترض الحكم الذاتي تمكين الجهة من صلاحيات واسعة في مجال تدبير الشأن الثقافي، بما يشمل حماية التراث الحساني المادي واللامادي، ودعم التعبيرات الفنية والأدبية المحلية، وصون العادات والتقاليد التي تشكل نسيج الحياة الاجتماعية الصحراوية. ولا يقتصر هذا التدبير على الدعم الرمزي أو المناسباتي، بل يمتد إلى سياسات ثقافية عمومية، تضع الثقافة في صلب التنمية الجهوية، وتعتبرها رافعة للاندماج الاجتماعي والاستقرار السياسي.
ويرتبط بالبعد الثقافي البعد اللغوي، حيث تشكل اللغة الحسانية أداة تواصل وحاملة لذاكرة جماعية، لا يمكن تهميشها في أي تصور جاد للحكم الذاتي. ويقوم النموذج المغربي، في هذا الإطار، على الاعتراف الوظيفي باللغة الحسانية في الفضاءات الجهوية، سواء في الإعلام المحلي، أو في الأنشطة الثقافية، أو في بعض مجالات التعليم والتكوين، دون أن يمس ذلك بوحدة اللغات الرسمية للدولة. فالاعتراف هنا ليس اعترافا سياديا، بل اعترافا ثقافيا وظيفيا، يهدف إلى تعزيز القرب بين المؤسسات والمواطنين، وإلى جعل الحكم الذاتي معبرا عن الواقع الاجتماعي للجهة.
كما يشمل هذا الاعتراف المؤسسي إدماج الأعراف الاجتماعية المحلية في بعض مجالات التنظيم الاجتماعي، خاصة في ما يتعلق بفض النزاعات البسيطة، أو بتنظيم العلاقات الاجتماعية التقليدية، وذلك في إطار القانون الوطني. فالأعراف، حين يتم تقنينها وضبطها، لا تشكل تهديدا للدولة، بل تساهم في تحقيق السلم الاجتماعي، وتقريب العدالة من المواطنين. ويستفيد النموذج المغربي هنا من تجارب دولية أقرت بدور الأعراف المحلية في تعزيز الاستقرار، دون أن تسمح بتحولها إلى نظم قانونية موازية أو متعارضة مع القانون العام.
ولا تقتصر حماية الخصوصية على الجانب الثقافي واللغوي، بل تمتد إلى البعد الاجتماعي، حيث يتعين على الحكم الذاتي أن يستوعب البنيات الاجتماعية التقليدية للساكنة الصحراوية، وفي مقدمتها القبيلة، لا باعتبارها بنية سياسية بديلة، بل باعتبارها واقعا اجتماعيا لا يمكن تجاهله. فإدماج ممثلي هذه البنيات في آليات التشاور والحوار الجهوي يعزز مشروعية المؤسسات المنتخبة، ويحول الحكم الذاتي إلى عملية تشاركية، لا إلى بناء فوقي مفروض من الخارج. وهذا الإدماج لا يعني إعادة إنتاج منطق التمثيل القبلي داخل المؤسسات، بل استحضار الفاعلين الاجتماعيين في بلورة السياسات العمومية الجهوية.
ويكتسي هذا البعد التشاركي أهمية خاصة في سياق الصحراء المغربية، حيث لعبت الروابط الاجتماعية التقليدية دورا محوريا في تنظيم الحياة الجماعية، وفي ضمان التضامن الاجتماعي. ومن ثم فإن تجاهل هذه البنيات قد يؤدي إلى فجوة بين المؤسسات الحديثة والمجتمع، في حين أن استيعابها ضمن منطق تشاركي منظم يساهم في تعزيز الثقة بين الدولة والمواطنين، ويجعل الحكم الذاتي امتدادا طبيعيا للبنية الاجتماعية، لا قطيعة معها.
كما أن حماية الخصوصية الصحراوية تقتضي سياسات عمومية تراعي نمط العيش المحلي، خاصة في مجالات الرعي والتنقل واستغلال الموارد الطبيعية. فالحكم الذاتي لا يمكن أن ينجح إذا اعتمد نماذج تنموية موحدة لا تراعي الخصوصيات البيئية والاجتماعية للجهة. ومن ثم يتعين تمكين المؤسسات الجهوية من تصميم سياسات تنموية مرنة، تحترم نمط العيش الصحراوي، وتوازن بين متطلبات التنمية الحديثة والحفاظ على التوازنات الاجتماعية والبيئية.
ويظل البعد الرمزي حاضرا بقوة في هذا المبحث، إذ إن الاعتراف بالخصوصية الثقافية والاجتماعية لا يقتصر على السياسات العمومية، بل يشمل أيضا الرموز والطقوس والتمثلات الجماعية. فإدماج الرموز الثقافية المحلية في الفضاء العمومي الجهوي، واحترام الذاكرة الجماعية، يساهم في ترسيخ الشعور بالانتماء، ويحول الحكم الذاتي إلى فضاء اعتراف متبادل بين الدولة والمجتمع. وهذا الاعتراف الرمزي، رغم طابعه غير المادي، يلعب دورا حاسما في نزع التوترات وبناء الثقة.
ومن ثم يمكن القول إن حماية الخصوصية الثقافية والاجتماعية في النموذج المغربي ليست امتيازا لفئة دون أخرى، ولا تنازلا عن الوحدة الوطنية، بل تجسيدا لفهم متقدم للدولة، يرى في التنوع مصدر غنى لا عامل انقسام. فالدولة القوية ليست تلك التي تذيب كل الخصوصيات في نموذج واحد، بل تلك التي تنجح في تنظيم التعدد داخل إطار وحدوي، وتمنح لكل مكون إحساسا بالاعتراف والمشاركة.
وبذلك يتحول الحكم الذاتي، عبر هذا البعد، من مجرد آلية لتدبير نزاع ترابي، إلى مشروع مجتمعي متكامل، يعيد وصل الدولة بمجتمعها في الصحراء المغربية، ويؤسس لعلاقة جديدة قائمة على الثقة والاعتراف والمسؤولية المشتركة. فحماية الخصوصية ليست نهاية في حد ذاتها، بل وسيلة لبناء اندماج وطني عميق، يجعل من الحكم الذاتي رافعة للاستقرار والتنمية، لا مجرد حل سياسي ظرفي.
عاشرا، مبدأ التدرج والضمانات الدستورية:
يمثل مبدأ التدرج والضمانات الدستورية حجر الزاوية في تحويل الحكم الذاتي من تصور سياسي نظري إلى مسار مؤسساتي مستقر وقابل للاستمرار. فالتجارب المقارنة تظهر أن فشل كثير من صيغ الحكم الذاتي لم يكن ناتجا عن الفكرة في ذاتها، بل عن غياب آليات التدرج، وعن ضعف الضمانات القانونية التي تحمي التجربة من الارتداد أو التوظيف السياسي. ومن هذا المنطلق، يقوم النموذج المغربي للحكم الذاتي في الصحراء المغربية على تصور واع يعتبر أن نقل الصلاحيات لا ينبغي أن يتم دفعة واحدة، ولا أن يترك دون مراقبة دستورية دقيقة، بل يجب أن يندرج ضمن مسار تراكمي مضبوط، يوازن بين متطلبات الثقة السياسية وحتمية الاستقرار المؤسساتي.
ينطلق هذا التصور من قناعة مفادها أن الحكم الذاتي ليس حالة جامدة، بل مسار دينامي قابل للتطور، يرتبط بمدى نضج المؤسسات الجهوية، وبقدرتها على ممارسة الصلاحيات المنقولة بكفاءة ومسؤولية. فالتدرج هنا لا يعكس ترددا أو نقصا في الإرادة السياسية، بل يعبر عن عقلانية دستورية تراعي تعقيد السياق، وتتفادى الصدمات المؤسساتية. ولذلك يفترض النموذج المغربي اعتماد مراحل واضحة لنقل الاختصاصات، تبدأ بالصلاحيات التدبيرية الأساسية، ثم تتوسع تدريجيا لتشمل مجالات أعمق، بناء على تقييم موضوعي للأداء، لا على اعتبارات ظرفية أو ضغوط سياسية.
ويقوم هذا التدرج على مبدأ التعاقد المؤسسي بين الدولة والجهة ذات الحكم الذاتي، حيث يتم تحديد الاختصاصات المنقولة في كل مرحلة عبر نصوص قانونية واضحة، مصحوبة بمؤشرات للنجاعة والتدبير الجيد. فالحكم الذاتي لا يمنح ككتلة واحدة، بل يبنى عبر محطات، تسمح بتصحيح الاختلالات، وتدارك النواقص، وتعزيز القدرات المحلية. ويمنح هذا المسار التراكمي للدولة والجهة معا فرصة بناء الثقة المتبادلة، ويحول دون تحول الحكم الذاتي إلى مغامرة سياسية غير محسوبة العواقب.
ويرتبط التدرج ارتباطا وثيقا بمنظومة الضمانات الدستورية، التي تشكل الإطار الحامي للتجربة من الانحراف أو التوظيف. فالدسترة هنا ليست إجراء شكليا، بل آلية مركزية لتأمين الحكم الذاتي، عبر إدراجه ضمن البنية الدستورية للدولة، وتحديد مجاله وحدوده وصلاحياته بنصوص عليا. فحين يتم دسترة الحكم الذاتي، يتحول من خيار سياسي قابل للتراجع إلى التزام دستوري ملزم لجميع السلطات، بما يضمن استقراره واستمراريته عبر الزمن.
وتضطلع المحكمة الدستورية بدور محوري في هذه المنظومة، باعتبارها الجهة المخولة لضمان احترام توزيع الاختصاصات، ومنع أي تجاوز من طرف الدولة أو الجهة. فالمحكمة الدستورية تشكل صمام أمان قانوني، يحول دون تغول المركز على صلاحيات الجهة، كما يمنع في المقابل أي توسع غير مشروع في اختصاصات الحكم الذاتي على حساب السيادة الوطنية. وبهذا المعنى، تصبح الرقابة الدستورية آلية توازن لا أداة صراع، وضمانة للثقة المتبادلة بين مختلف مستويات السلطة.
ولا تقتصر الضمانات الدستورية على الرقابة القضائية، بل تشمل أيضا آليات سياسية ومؤسساتية لتدبير الخلافات المحتملة. فالنموذج المغربي يفترض إحداث آليات دائمة لفض النزاعات بين الدولة والجهة، سواء عبر لجان مشتركة، أو عبر مساطر تحكيم مؤسساتي، تتيح حل الخلافات في إطار القانون والحوار، لا عبر التصعيد السياسي أو الإعلامي. ويهدف هذا الترتيب إلى منع تحويل الخلافات التقنية أو التدبيرية إلى أزمات سياسية تهدد استقرار التجربة برمتها.
كما يشكل البعد المالي أحد أهم عناصر الضمان، لأن الحكم الذاتي لا يمكن أن يستقيم دون موارد مستقرة ومضمونة. ومن ثم يتعين دسترة المبادئ العامة للتمويل الجهوي، وضمان حق الجهة في موارد مالية كافية لممارسة اختصاصاتها، مع إخضاعها في الوقت ذاته لرقابة مالية صارمة تضمن الشفافية وحسن التدبير. فالضمان المالي هنا مزدوج، يهدف من جهة إلى حماية الجهة من التهميش أو التجفيف المالي، ومن جهة أخرى إلى حماية المال العام من سوء الاستعمال أو غياب المحاسبة.
ويكتسي مبدأ التدرج بعدا سياسيا عميقا، يتمثل في نزع الطابع الصدامي عن الحكم الذاتي، وتحويله إلى مسار هادئ لبناء الثقة. فالتدرج يسمح بإشراك الفاعلين المحليين تدريجيا في تحمل المسؤولية، ويجنبهم عبء الصلاحيات الثقيلة قبل توفر الشروط المؤسسية والبشرية اللازمة. كما يمنح الدولة الوقت الكافي لمواكبة التجربة، وتصحيح مسارها، دون أن يظهر ذلك في صورة تراجع أو عدم التزام.
ومن جهة أخرى، يشكل التدرج والضمانات الدستورية رسالة واضحة إلى المجتمع الدولي، مفادها أن الحكم الذاتي المغربي ليس حلا ظرفيا أو مناورة سياسية، بل مشروع دولة قائم على أسس قانونية صلبة، وقابل للتقييم والمتابعة. فالمجتمع الدولي لا يبحث فقط عن حلول سياسية، بل عن حلول قابلة للتطبيق والاستدامة، وهو ما يوفره هذا النموذج من خلال ربط نقل الصلاحيات بالتقييم، وضمان الحقوق بالرقابة الدستورية.
كما أن هذا التصور يحمي الحكم الذاتي من الابتزاز السياسي الداخلي، إذ يمنع توظيفه كورقة ضغط أو كوسيلة للمزايدة، لأن قواعده تكون محددة دستوريا، ومساره مضبوطا قانونيا. فكل توسع في الصلاحيات يتم وفق مساطر معلومة، وكل خلاف يخضع لآليات مؤسساتية، مما يقلص هامش التأويل والارتجال.
وبذلك يتحول التدرج والضمانات الدستورية من مجرد أدوات تقنية إلى فلسفة حكم، تقوم على الثقة المؤطرة، والمسؤولية المتدرجة، والالتزام الدستوري. فهي التي تمنح الحكم الذاتي المغربي طابعه الواقعي والرصين، وتجنبه الوقوع في فخ الحلول القصوى، سواء تلك التي تفرغ الحكم الذاتي من محتواه، أو تلك التي تحوله إلى كيان منفلت من الضبط الدستوري.
وفي المحصلة، يبرز هذا المبحث أن نجاح الحكم الذاتي في الصحراء المغربية لا يتوقف فقط على نقل الصلاحيات أو إحداث المؤسسات، بل على كيفية إدارة الزمن الدستوري للتجربة، وضمان توازنها عبر آليات قانونية ومؤسساتية فعالة. فالتدرج ليس تأجيلا للحل، بل شرطا لإنجاحه، والضمانات الدستورية ليست قيودا على الحكم الذاتي، بل أسسه الحقيقية التي تحول دون انهياره أو انحرافه، وتجعل منه نموذجا قابلا للاستمرار في بيئة إقليمية ودولية معقدة.
خاتمة وتوصيات:
تشكل هذه الدراسة محاولة لتحرير النقاش حول نزاع الصحراء المغربية من اختزالياته السياسية والإيديولوجية، وإعادة إدراجه ضمن أفق دستوري مقارن، ينظر إلى الحكم الذاتي لا بوصفه تنازلا ظرفيا أو حلا مؤقتا، بل باعتباره آلية حديثة لإدارة النزاعات الترابية داخل الدول الموحدة. وقد بين التحليل، من خلال تتبع المفهوم القانوني للحكم الذاتي، واستعراض موقعه في القانون الدولي، ثم دراسة النماذج المقارنة، أن الحكم الذاتي لم يعد استثناء في التجارب الدستورية المعاصرة، بل أصبح أحد الحلول الواقعية التي تلجأ إليها الدول لمواجهة إشكاليات التعدد والخصوصية دون المساس بوحدتها وسيادتها.
لقد أظهرت المقارنة مع النماذج الإسبانية والفنلندية والإيطالية والدنماركية أن نجاح الحكم الذاتي لا يرتبط بحجم الصلاحيات المنقولة فقط، بل يرتبط أساسا بوضوح الإطار الدستوري، ودقة توزيع الاختصاصات، ووجود ضمانات قانونية ومؤسساتية فعالة، إضافة إلى ملاءمة النموذج لطبيعة النزاع ذاته. فالنزاعات الهوياتية واللغوية لا تعالج بالأدوات نفسها التي تعالج بها النزاعات السياسية أو الاقتصادية، والحكم الذاتي الناجح هو الذي يصمم انطلاقا من تشخيص دقيق لجذور النزاع، لا من استنساخ نماذج جاهزة.
وفي هذا السياق، يبرز الحكم الذاتي المغربي كخيار سياسي ودستوري منسجم مع تطور الدولة الحديثة ومع التحولات التي عرفها القانون الدولي في تعاطيه مع قضايا تقرير المصير والنزاعات الترابية. فهو مبادرة تنقل النقاش من منطق الصراع الصفري إلى منطق التدبير المشترك داخل الدولة، وتؤسس لإمكانية الجمع بين السيادة والوحدة من جهة، والاعتراف بالخصوصيات المحلية والتدبير الذاتي من جهة أخرى. كما أن استحضار المقارنة الدولية يبين أن هذا الخيار ليس معزولا أو استثنائيا، بل يندرج ضمن عائلة حلول معتمدة دوليا، حين تتوفر لها الشروط الدستورية والمؤسساتية المناسبة.
غير أن الحكم الذاتي، مهما بلغت وجاهته النظرية، يظل مشروعا سياسيا ودستوريا يحتاج إلى تنزيل دقيق، وإلى رؤية بعيدة المدى، حتى لا يتحول إلى صيغة شكلية أو إلى مصدر توتر جديد. ومن هنا تبرز أهمية الانتقال من الدفاع الخطابي عن الحكم الذاتي إلى بلورته في تصور مؤسساتي واضح، يحدد مجاله وحدوده وضماناته، ويجعله قابلا للفهم داخليا ومقنعا دوليا.
وانطلاقا من خلاصات هذه الدراسة، يمكن اقتراح جملة من التوصيات العلمية والعملية:
اولا، ضرورة تعزيز التقعيد الدستوري لمشروع الحكم الذاتي، عبر توضيح مكانته داخل المنظومة الدستورية، وتحديد طبيعته القانونية وحدود اختصاصاته بشكل لا يترك مجالا للتأويلات المتعارضة، سواء داخليا أو خارجيا.
ثانيا، اعتماد منطق التدرج في تنزيل الحكم الذاتي، بما يسمح ببناء الثقة، وتقييم الأداء، وتصحيح الاختلالات، بدل نقل الصلاحيات دفعة واحدة دون ضمان توفر الشروط المؤسساتية والبشرية اللازمة.
ثالثا، إيلاء أهمية مركزية للضمانات الدستورية والقضائية، خاصة دور القضاء الدستوري في فض النزاعات بين المركز والجهة، باعتباره صمام أمان يحمي وحدة الدولة كما يحمي مصداقية الحكم الذاتي.
رابعا، الحرص على أن يكون الحكم الذاتي مشروعا تنمويا بقدر ما هو مشروع سياسي، من خلال ربط نقل الصلاحيات بتمكين مالي حقيقي، وبسياسات عمومية تراعي خصوصيات المجال الصحراوي وحاجيات ساكنته.
خامسا، إدماج البعد الثقافي والاجتماعي إدماجا مؤسسيا، لا رمزيا فقط، عبر الاعتراف بالخصوصية الحسانية، وإشراك الفاعلين المحليين في بلورة السياسات الجهوية، بما يعزز الشعور بالانتماء والمشاركة.
سادسا، تطوير خطاب أكاديمي ودبلوماسي قائم على المقارنة الدولية الرصينة، يبرز أن الحكم الذاتي المغربي ينسجم مع التجارب الدستورية الناجحة، دون السقوط في منطق الاستنساخ أو التبرير الدفاعي.
سابعا، تشجيع البحث العلمي في موضوع الحكم الذاتي، خاصة من زاوية القانون الدستوري المقارن، والعلوم السياسية، والتنمية الترابية، بما يسمح بإغناء النقاش العمومي بأدوات تحليلية هادئة بعيدة عن الاستقطاب.
وبذلك، يمكن القول إن الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، إذا ما تم تأطيره دستوريا ومؤسساتيا بشكل محكم، وإذا ما استلهم دروس التجارب المقارنة دون نقلها حرفيا، يمكن أن يشكل ليس فقط حلا لنزاع ترابي معقد، بل نموذجا متقدما في إدارة التعدد داخل الدولة الموحدة. فهو ليس نهاية للنقاش، بل بداية لمسار طويل يتطلب رؤية استراتيجية، ونضجا مؤسساتيا، وإرادة سياسية تجعل من الدستور أداة لحل النزاعات، لا مجرد إطار لتنظيمها.
كاتب وأكاديمي مغربي



