
"تهركاويت" وصم عنصري لمشاكل حضرية وثقافية واجتماعية
يستخدم مصطلح "تهركاويت" في الخطاب اليومي بالمغرب للإشارة إلى سلوكات ينظر إليها بوصفها غير متحضرة، من قبيل الضجيج في الفضاء العام، أو خرق آداب السلوك الجماعي. غير أن هذا التوظيف الظاهري يخفي خلفه شبكة معقدة من التمثلات الاجتماعية، التي قد تتحول أحيانا إلى أدوات لوصم فئات معينة، استنادا إلى خلفياتهم الطبقية أو الجغرافية أو الثقافية… فهل "تهركاويت" مجرد نعت شعبي للتصرفات الفوضوية؟ أم أنها مفهوم محمل بدلالات طبقية وثقافية تتجاوز ما يبدو للوهلة الأولى؟ هذا المقال يسعى إلى تفكيك هذا المصطلح من منظور جغرافي اجتماعي وثقافي، للكشف عن علاقته بالبنية الحضرية، والخيال الاجتماعي حول "الرقي"، وكذا بأنماط التراتب الرمزي في الفضاء العام، حيث لا يعبر السلوك فقط عن الفرد، بل أيضا عن نظرة جزء من المجتمع إليه.
"تهركاويت" في الاستخدام الدارج تطور دلالي يكشف عنصرية مقنعة
لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا في إثراء هذا المفهوم، خاصة بعد أن استخدمه فنانون مثل حسن الفد لوصف ضعف التمدن عند بعض من يملكون المال والجاه، لكنهم يخرقون القانون ويستعرضون نفوذهم بطريقة فجة مؤكدا أن الثراء والنفوذ لا يجعل الإنسان متحضرا.
من هنا بدأت القصة ثم اكتسبت الكلمة أبعادا اجتماعية أعمق في الاستخدام الدارج بدأت تطلق على الأشخاص الذين يمارسون سلوكيات غير حضارية أو "همجية" تخرق النظام العام أو تتجاهل أدبيات التعامل في الفضاء المشترك، هذا الاستخدام يعكس استياء شعبيا من غياب الوعي المدني واللامبالاة عند فئة من المجتمع.
غير أن الدلالة تطورت لتصبح أكثر خبثا؛ فتحولت "تهركاويت" إلى أداة للتهكم والتصنيف الاجتماعي، باتت تستخدم لانتقاد اللباس، أو اللهجة، أو طريقة الكلام أو الأكل... في محاولة لفرض معايير معينة للذوق المنمق ونمط العيش المتكلف، غالبا ما تكون مستوحاة من ثقافة أجنبية والفرنسية خاصة.
هنا لم تعد الكلمة تصف سلوكا ضارا بالضرورة، بل أصبحت وصما لكل ما يخرج عن "الذوق" المزعوم، عاكسة بذلك تحيزات طبقية واجتماعية تهدف إلى تهميش من لا يتماشى مع تلك التبعية النابعة من عقدة الأجنبي...
الأخطر من ذلك هو استخدام "هركاوة" لوصم فئات اجتماعية بأكملها بناء على أصلها الجغرافي؛ فالقادمون من المجال القروي أو سكان الضواحي يتعرضون للتقليل من شأنهم بهذه الكلمة، في تعزيز لصور نمطية سلبية ومجحفة، هذا الاستخدام يغذي التمييز العرقي والطبقي، ويعمق الهوة بين مكونات المجتمع، بدلا من تعزيز التماسك والاندماج.
"تهركاويت" كظاهرة عالمية: الجذور الاجتماعية والجغرافية
إن "تهركاويت" ليست ظاهرة مغربية خالصة؛ فبالنظر إلى ثقافات أخرى، نجد مصطلحات مشابهة تحمل نفس دلالات الوصم والتقليل من الشأن تجاه فئات معينة، غالبا ما تكون قادمة من الأرياف أو المناطق المهمشة؛ كلمات مثل Chavsفي إنجلترا، White Trash في الولايات المتحدة،Beaufs في فرنسا، Prolls في ألمانيا، وTerroni في إيطاليا... كلها تشير إلى نمط عالمي من التنميط الاجتماعي، حيث يتم ربط فئات معينة بسلوكيات "غير حضارية" أو "ذوق متدن"... هذا يؤكد أن "تهركاويت" هي تعبير محلي عن ظواهر مجالية واجتماعية وثقافية عالمية.
علميا، يمكن فهم هذه الظاهرة من منظور الجغرافيا الاجتماعية، فـالهجرة القروية وما يتبعها من انتقال سكان القرى إلى ضواحي المدن، غالبا ما تؤدي إلى استقرارهم في أحياء هامشية أو دور الصفيح... هذه المناطق، التي تفتقر للبنية التحتية الأساسية، تشهد ظاهرة ترييف المدينة، حيث تنتقل بعض خصائص الفضاء الريفي إلى الحضري بشكل مشوه.
هكذا تصبح السلوكيات التي تصنف لاحقا كـ "تهركاويت" نتاجا لظروف التهميش والإقصاء الاجتماعي، وضعف فرص الاندماج، والشعور بالدونية...
فحين يعيش الفقر المدقع بجوار مظاهر البذخ الفاحش، دون عدالة اجتماعية أو فرص متكافئة، تنشأ توترات تترجم أحيانا في شكل عنف، إجرام، أو سلوكات مضادة للمجتمع، ينظر إليها على أنها "تهركاويت"... واحيانا قد تتطور إلى خطر حقيقي وخير مثال "الفافيلا" في البرازيل، التي تعد حالة نموذجية لدور التفاوتات الطبقية والهشاشة... في خلق بيئات عنيفة من الصعب معالجتها أمنيا...
"تهركاويت" مؤشر على أزمة أخلاقية وثقافية
في ظل غياب نماذج وقدوات حقيقية قادرة على إلهام الأفراد وتوجيههم، تتعرض الهويات الفردية والجماعية لتآكل تدريجي، مما يؤدي إلى فراغ قيمي وثقافي يملأ غالبا بسلوكيات فوضوية وغير منضبطة، هذا الوضع يتفاقم بتأثير البيئة الرقمية، حيث تروج أنماط حياة سطحية وبطولات زائفة عبر وسائل التواصل، ما يدفع بعض الفئات، خاصة الشباب، إلى تبني تلك السلوكيات كوسيلة للظهور أو الانتماء، في غياب بدائل تربوية وثقافية رصينة.
من المهم هنا أن نؤكد على أن السلوك الإنساني ليس بمعزل عن بيئته؛ فالانتقال من القرية إلى المدينة، أو من مدينة في دولة نامية إلى مدينة أوروبية، يستلزم وقتا للتكيف مع أنماط سلوكية جديدة وقوانين اجتماعية مختلفة. فما ينظر إليه على أنه "تهركاويت" قد يكون مجرد اختلاف ثقافي، أو نتيجة لغياب التوعية بقواعد معينة، أو حتى تعبيرا عن الإحباط واليأس في ظل ظروف معيشية صعبة...
من يركز على "الذوق والتحضر" كمقياس وحيد غالبا ما يتجاهل هذه الواقعية، ويغفل أن التحضر الحقيقي يتجاوز المظاهر الخارجية ليشمل القيم الجوهرية، فكم من موزع لوصم تهركاويت لو وضع في سياق أخر مع أشخاص أخرين بالمغرب أو خارجه سيصبح هركاويا بمعاييره العنصرية.
إعادة تعريف "تهركاويت": البعد النفسي اللاواعي
بناء على ما تقدم، نرى أن مفهوم "تهركاويت" يتطلب تعريفا أعمق يتجاوز السلوك الظاهر إلى الدوافع الكامنة وراءه، لهذا نقترح التعريف التالي: تعد تهركاويت سلوكا نفسيا اجتماعيا لا واعيا، ينبع من نقص في الوعي الفكري والثقافي، ويمارسه الفرد للتعبير عن ذاته، أو كرد فعل انتقامي تجاه محيطه، أو استجابة لعقد نفسية عميقة، غالبا ما تكون متجذرة في الشعور بالدونية، أمام الآخر سواء الأجنبي أو المختلف.
ضمن هذا التعريف، تتساوى صور "التهركاويت" في خطورتها على النسيج الاجتماعي والمصلحة العامة، بغض النظر عن الخلفية الاجتماعية أو الاقتصادية لمرتكبيها:
- فمن يعود من ضواحي المدينة إلى قبيلته ليصف نفسه بـ"المديني" بلهجة متعالية، ومن يعود من ضواحي باريس إلى المحمدية ويصف نفسه بـ"الفرنكفوني" متجاهلا هويته: كلاهما يعاني من عقدة نقص تجاه هويته الأصلية، ويسعى لفرض هوية مصطنعة أو متفوقة على الآخرين، مدفوعا بشعور بالدونية أمام نموذج "الآخر" المزعوم.
- من يصرخ في الشارع العام متجاهلا راحة المارة، ومن يحاول أن يسمع الناس أنه يتحدث مع أطفاله بلغة أجنبية في الأماكن العامة لا لضرورة بل لاستعراض اجتماعي، كلاهما يسعى للفت الانتباه أو فرض وجوده بطريقة مزعجة أو مستفزة رغبة في إبراز تفوق وهمي، دون وعي بتأثير سلوكه على الذوق العام.
- من يسرق علامة "قف" المرورية ويعبث بالممتلكات العامة، ومن يسرق أرضا تعود ملكيتها للمجتمع لبناء فيلاته الفارهة، أو يشتري عقارا في دولة أجنبية بأموال غير مشروعة، كلاهما يخرق القانون ويتعدى على المصلحة العامة، متجاهلا العواقب الوخيمة على المجتمع، سواء كانت السرقة رمزية أو مادية ضخمة، هنا يتجلى الاستعلاء وغياب احترام القانون كشكل من أشكال "التهركاويت" الأكثر خطورة.
كل هذه السلوكيات، وإن اختلفت في شكلها وتداعياتها، تتحد في كونها أفعالا "هركاوية" ضد الوطن وضد المصلحة العامة، تتم بشكل لا واع، وتكشف عن هشاشة نفسية أو فكرية تدفع الفرد للتصرف بطرق تضر بالنسيج الاجتماعي والقيم المدنية. هذا التعريف ينزع صفة "الهركاوة" من أي فئة اجتماعية أو جغرافية محددة، ويجعلها حالة سلوكية يمكن أن تظهر لدى أي فرد يفتقر إلى الوعي الكامل بذاته وهويته وبمحيطه.
خطورة التعميم وضرورة الوعي النقدي
من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن من يرددون مفهوم "هركاوة" كوسيلة لانتقاد الآخرين غالبا ما ينطلقون من مواقف شخصية تعرضوا لها، ويقعون في فخ التعميم المضلل. إنهم لا يهدفون إلى النقاش العلمي أو الفهم الموضوعي، بل لتبرير تحيزاتهم الشخصية وتغذية خطاب الوصم في حين أن قصات شعرهم أو الأكسسوارات التي يضعونها... تصنف من طرف أخرين على أنها "تهركاويت"... قد يغلفون أحكامهم بمفاهيم نظرية أنثروبولوجية تبدو عميقة، لكنها في الحقيقة بعيدة تماما عن السياق الحقيقي للمشكلة، وتستخدم لتبرير أحكام مسبقة. هذا النوع من الخطاب العنصري يعزز الانقسامات الاجتماعية ويضعف قدرة المجتمع على النقد الذاتي البناء ومعالجة مشاكله الحقيقية.
نحو وعي مجتمعي يتجاوز التهركاويت
للتغلب على هذه الظاهرة، يتوجب على المجتمع المغربي تجاوز الخطاب السطحي الذي يوصم فئات معينة، والانتقال إلى وعي نقدي أعمق. هذا الوعي يستلزم:
- التصالح مع الهوية الذاتية والثقافية: وتقدير التنوع المحلي بدلا من تحقيره والبحث عن "تحضر" سطحي مستورد.
- فهم الأسباب الجذرية: لمشاكل التهميش، التفاوتات المجالية، وتحديات الاندماج الحضري.
- تطبيق القانون بصرامة ومساواة: على الجميع، دون تمييز بين غني أو فقير، ذي نفوذ أو لا.
- تعزيز التربية المدنية: التي تعلي من قيم المسؤولية، احترام الفضاء العام، والتعايش السلمي، لا كنمط واحد، بل كقاعدة للتعامل بين مختلف الفئات.
إن السلوك غير المتحضر ليس قدرا بيولوجيا، بل نتاج بيئة، ويمكن معالجته عبر التربية، العدالة الاجتماعية، وتمكين الناس من الإحساس بقيمتهم داخل المجتمع.
إن بناء مجتمع متوازن ومتماسك لا يتحقق بالوصم والتقليل من شأن الآخر، بل بالفهم العميق، والاعتراف بالتنوع، والعمل المشترك على معالجة الدوافع الحقيقية وراء أي سلوكيات ضارة، عندها فقط، يمكننا أن نرتفع بمفهوم "التحضر" من مجرد قشرة خارجية إلى قيمة مجتمعية أصيلة.