حِرَفٌ يَدَويّة.. لنَهضَةِ البَلد!

 حِرَفٌ يَدَويّة.. لنَهضَةِ البَلد!
أحمد إفزارن
السبت 14 نونبر 2020 - 11:56
  • عَلَّمُونا الخَطأ..
    عَلَّمُونا أنّ أحسَنَ عملٍ هو على الكراسي.. في الإدارات.. وَصَدّقناهُم.. ونشَأنا على استِصغارِ حِرَفٍ أخرى.. الحِرَف اليَدَوِيّة..
    وهذا خطأٌ جَسِم..
    سياسةٌ مُمَنهَجة، مارَستَها أحزابُنا الحاكِمةُ منذُ الاستِقلال..
    وانتَشَرَ في طُول البلادِ وعرضِه أن الحِرَفَ اليَدَويّة، التّقليديّة، ليست النّموذجَ الأمثَل..
    وانتَشرت في مُجتمَعِنا مَوجةُ تحقيرٍ لِلمِهَنِ التي تعتَمِد اليَديْنِ والعَضلات.. وأنّ الأفضلَ أن نَتّجِهَ بالتعليمِ إلى الوظيفةِ الإدارية، بذريعةِ أنّ هذه غيرُ مُتعِبَة، ولها مّدخُولٌ مادّي "مُحترَم"..
    ونشَأنا على العَملِ المَوْصُوفِ بالمُحترَم، وهو الإداري، والعَملِ اللاّمُحترَم، وهو اليَدَوِي.. وكان هذا خطئًا جسيمًا، لأنّ أيّ بلد لا يَتطَوّر بدُونِ عَضَلات..
    وَسادَتِ النّظرةُ الدُّونيةُ مُختلفَ الأطيافِ الاجتماعية، لدرجةِ أنّ مِهَنًا يَدَويّةً منها الفلاحة، والحِدادة، والنّجارة، والصناعة التّقليدية، بَدأت تتَراجعُ أكثرَ فأكثر، لدرجةِ أن الفلاحةَ لم تَعُد كما كانت منذُ عشراتِ السّنِين..
    ومن كذِبُوا علينا، هم أنفُسُهم استَولوا على المَزارِعِ التي غادرَها المُعمّرُون..
    وأصبَحنا الآن أمام نَدرةِ اليدِ العاملة، وقلّةِ المقاولات، وإفلاسِ شركاتِ ذاتِ صلةٍ بالأعمال اليَدوية..
    وتطوّرَ الحالُ لمُستوَى التّدهوُر الاقتصادي الذي نحنُ فيه..
    والحكومةُ لا تَعبأ بالتّكوينِ المِهني، بمختلفِ تَفرّعاتِه الموجودةِ في العالم..
    وما زالت سخافةُ النّظرةِ الدّونيّة للمِهَنِ اليَدوية، هي منَ الأسبابِ التي أدّت إلى خَللِنا الاقتصادي، في خِضمّ الحكوماتِ المُتأَسلِمة..
    وها هو اقتِصادُنا الاجتِماعي في تَدَهوُر..
    والمُشكلُ لا يُحّلّ، في غيابِ سياسةٍ اقتصاديةٍ مُواكِبةٍ لسياسةٍ تعليميّة لامُجْدِيّة..
    كان على الحكوماتِ المتعاقِبة منذ الاستقلالِ إلى الآن أن تنهَجَ تعليمًا مُتَنوّعًا، يتَناسَقُ فيه التعليمُ بالاقتِصاد..
    والاقتِصادُ هو السببُ الرئيسِي في المشاكلِ الاجتماعية التي ما زالت تُشكلُ تهديدًا لتنميةِ بلدِنا..
    وعلينا بتدارُك الواقِع، وهو الاهتمام بالتعليم، بكُلّ تخصّصاتِه، ومنها التكويناتُ المِهنيّة، مع تنشيطِ الاقتصادِ المُرتبطِ بمنتُوجاتِ الحِرَفِ التقليدية..
    إنّ أحزابَنا التي حَكمت البلد، مسؤولةٌ عن إهمالِ التّكوينِ المِهني في شقّ البِناء والأعمالِ المُرتبطةِ بالعَقارِ والطُّرُق وغيرِها..
    وعندما تَستعِيدُ المِهَنُ التقليديةُ عافيَّتَها التّكوينية، تستَعيدُ أيضًا حيَويتَها، وتُساهِمُ بفعَاليةٍ في نهضةٍ اقتصاديّة وطنية..
    هذا المجالُ الحِرَفِي التّقليدي يستَطيعُ أن يُشكّلَ امتِصاصًا قويّا للبطالة، وأن يمنَح شبابَنا آفاقًا مُستَقبليّةً ذاتَ مردُوديّةٍ مُهمّة..
    وبهذا يُعادُ الاعتِبارُ لتوازُنات المِهَنِ في بلادِنا..
    وما كانت الكَرَاسِي- دائمًا - أكثرَ إنتاجيّةً من غيرِها..
    كفَى من تركيزِ العمَلِ على الكَرَاسِي..
    الكَراسِي تأتِي بعدَ الأيادِي..
  • ولا كُرسيٌّ واحِدٌ يَستَغني عن اليَد..
    وليسَ الجُلُوسُ هو المِقياس.. المِقياسُ هو العَمَل..
    هو ما أنتَ فاعِلٌ لنَفسِك ووَطنِك ومُواطنيكَ وللإنسانيةِ جمعاء..
    عندَما نتَخلّصُ من عُقدةِ الكراسِي الوَظيفيّة، نُدركُ أن الإدارةَ مسؤوليّة، وليست تشريفًا ولا تكريمًا..
    وعندَها لا نُفرّقُ بين مِهَنَةٍ وأخرَى، وحِرَفةٍ وأخرى.. نتعاملُ مع بعضِنا على أساسِ أنّنا جمَيعنا إنسان، وجمَيعُنا سواسيّةٌ أمام الحقوقِ والواجبات..
    وعندَها أيضا، لا نُخفِي ما هو الأهَمُّ من الانتِماء، وهو الكيفية التي نُمارِسُ بها المسؤوليات..
    المسؤوليةُ هي الهدَفُ من وجُودِ الكراسي..
    ولا اعتِبارَ لكُرسيّ، ولو في الحكومةِ والبرلمان وغيرِهِما، إلا بقيمةِ إنجازاتِ أيّ مسؤول..
  • ماذا أنتَ فاعِلٌ بمسؤوليتِك؟
    السؤالُ إلينا جميعًا.. ودُستُورُنا يربطُ المسؤوليةَ بالمحاسَبة.. والمُحاسَبةُ من ضرُوراتِ مَسارِنا المُشتَرَك..
    ولا فرقَ بينَنا.. كلُّنا إنسان.. وكلُّ واحدٍ منّا يَتحمّلُ مسؤولية.. ولا فرقَ بين المسؤوليات.. كبيرةً كانت أو صغيرة..
    وكلُّ مسؤولٍ هو مُواطِن، وكلُّ مُواطنٍ هو مسؤول..
    مسؤولٌ عن نفسِهِ وعن غيرِه، وعن استِقرارِ ونهضةِ وطنِه، وعن سلامةِ كلّ الجنسِ البَشَري، وسلامةِ البيئةِ الطبيعيّة، وعن عدمِ التّفريطِ في الحياةِ على كوكبِ الأرض..
    كلُّ واحدٍ مِنّا مسؤولٌ عن نفسِه وأخيه وأختِه وأمّهِ وأبيه، وكلّ عائلتِه، وعن جارِه وقَبيلتِه ومدِينتِه وكلّ وطنِه والناسِ أجمعين..
    كلُّنا إخوة..
    وعلى كل واحدٍ منّا أن يقُوم بالواجبِ المَنوطِ به، وهي مسؤوليةٌ يتَحمّلها، ولا فرقَ في المسؤوليات بين وزيرٍ وعامِلٍ بسيط.. وهُنا أيضا، الوزيرُ نفسُه عامِل، والعامِلُ عامِل..
    كلّنا عُمّالٌ لدى بَعضِنا، في بلادِنا المُشترَكة..
    وعلينا باحترامِ كل الحِرَفِ والمِهَن..
    ومن يَعملُ عَملاً، يجبُ أن يُتقِنَه.. ومُن لا يُتقِنُ عملَهُ فهو غَشّاش.. والغشّاشُ لا نَقبَلُه.. الغشّاش ليسَ منّا..
  • وكلُّ المِهَنِ سواسيّةٌ أمام المَسوليّة!
    وعلى بلادِنا أن تَلتَفِتَ، وبمسؤولية، إلى كلّ المِهن، دُون تفريقٍ بينَها في الحقوقِ والواجبات..
    كُلّ المِهَن، مِثلَ كلّ مُواطن، مسؤولةٌ عن نفسِها وعن جودةِ ما تعمل، وعن احترامِ مَن يَستَهلكُ ما يُنتِج..
    وأن تَستَوعِبَ كلُّ مِهنة أنّ إنتاجَها ليسَ أقلّ قِيمةً مِن إنتاجٍ بالقلَم..
    والقلَمُ ليس يتِيما، وليس وحدَه في مَواقعِ المسؤوليات.. القلَم ليسَ أكبرَ من اليَد..
    القلَمُ يكتُب.. واليَدُ تَشتَغِل.. والعملُ اليَدَوِي لا يَقلُّ مكانةً عن العمَلِ بالقلَم..
    ولا رابطَ في العملِ بين القلَمِ واليَد، إلاّ المسؤولية.. ومن يكُونُ في مُستوى المسؤولية، فهذا تحتَرمُه كلُّ المِهَنِ والحِرَف..
    ولا مكانَ لأيّ "لامَسؤُول" في قلوبنا، وحاضرِنا ومُستَقبلنا، وفي ربُوعِ بلادِنا..
    بلادُنا تَستأهلُ مسؤولين في المُستوَى المطلُوب..
    ولا تهاوُنَ في المسؤولياتِ أمام سيادةِ البلَد..
    نُريدُ مَسؤولينَ في مُنتَهَى النزاهة!
    سواءٌ كانوا يَحتَرفُون المِدادَ والقَلَم، أو يَحتَرفُون أعمالاً يدويّة..
    وأمام القانون، لا فرقَ بين مَسؤولياتِ الأعمال، يدويّةً كانت أو باستِخدامِ الأقلام..
  • ومِنَ اليَد، تَبدأُ أيةُ حِرفَة..
    وينطلقُ الإبداع.. يَدَويّا.. وابتِكاريّا.. وإنتاجيّا.. وتَسويقيّا..
    وقصّةُ كلّ المِهَن، عبرَ التاريخ، رسَمَتها وصمّمَتها اليدُ البَشرية، ثم نَسَجَتها.. وانطلقَت بها من الفكرِ إلى المَيدان.. ومن الخيالِ إلى الواقع..
    وهكذا كلُّ الحِرَف البشرية، يَدَويّة، تقليديّة، فلاحيّة..
    كلّها بدَأَت من اليَد، وتطوّرَت باليد، وجَرى ضبطُها وتصحِيحُها باليَد..
    ومن يَدِ الصانع، تمّ نقلُها إلى يدِ المُشترِي، ثم إلى يَدِ المُسَوّق..
    أيادٍ كثيرة تناوبتَ وتتَناوَبُ على إخراجِ المنتُوجاتِ الحِرَفية إلى الأسواق..
    وبفضلِها كان التّوفيق، وكان "عِلمُ الاقتصاد"..
    وما أحوجَنا اليومَ إلى إعادةِ الاعتِبار لأيادِي الصُّنّاعِ والبنّائين ومُختلفِ الحِرفِ اليدَويّة التّقليدية..
    لا غِنَى عن اليَدِ البشرية التي تبدأ منَ البداية، وتتَعلّم الحِرفَة، وتُتقِنُها، وتَمتَهِنُها، وتكُونُ هي مَصْدرُ عيشِها، وعَيشِ عائلاتٍ أخرى، ومن ثمّةَ تطويرُ كلّ البلد..
    وهل في العالَمِ مِهنةٌ واحدة هي غيرُ يَدويّة..
    الكُلّ يَشتغلون باليَد.. بدءًا من الصانعِ التقليدي، وُصولاً إلى العُلماءِ ورُوادِ الفَضاء، مُرُورًا بالأساتذة والمُدرّبين والمؤطّرين والمُفكّرين…
    فماذا لو تَتعاونُ كلُّ أيادِينا في هذا البلدِ الأمين؟
    لا نُفرّق بين الأيادي.. كلُّ يدٍ لها دور.. كلُّ عَضَلةٍ من عَضلاتِنا لها دور.. ولا فرقَ بين عملِ هذا وذاك.. كلّ الأعمالِ محترمة.. ولا فرقَ في المَنظور الاجتماعي بين الحدّادِ والنّجّار والطّبّاخِ والطّيار…
    كلّ فردٍ هو مَسؤولٌ عن عملِه وإنجازه..
    عندَها تتَكامَلُ الأعمال..
    ونكُونُ جميعُنا سواسيّةً أمام الدولةِ والمُجتمع والعالَم..
    وأعمالُنا المُتَنوّعة، كلّها ذاتُ مسؤوليةٍ مُتكاملة..
    وكلّ عملٍ بحاجةٍ لأعمالِ الآخَرين..
    وهكذا نكُونُ جميعا، ورغمَ اختلافِنا في الشكل والطّبعِ والإنتاج، مَسؤولين عن بناءِ الأجيال القادِمة، ونَهضةِ البلد، وخِدمةِ الإنسانيةِ جمعاء..
    هكذا تتَحضّرُ الأمَم..
    [email protected]

هل الدولة الجزائرية عبارة عن "هجرة غير شرعية في التاريخ"؟

في حوار أجريناه في "الصحيفة" شهر غشت من سنة 2021 مع نور الدين بوكروح الذي يعتبر من السياسيين والمثقفين القلائل في الجزائر الذين ينتقدون "نظام الحكم" في البلاد المبني على ...