دعوة من أجل تخليق سياسي..
إن التجربة الحزبية والديمقراطية بالمغرب، لم تعد تتحمل إساءة أخرى، تُضاف إلى الإساءات الكثيرة التي طالتها منذ الاستقلال وإلى أيامنا هذه، خاصة أن الدولة العميقة أو ما يسمى بالمخزن بكل مكوناته، يُجهدُ نفسه من أجل تزيينها وتمجيدها، ووصفها بالريّادة والتفرّد في محيط إقليمي، يطبعه التسلّط والطّغيان واحتكار السلطة من قِبل الحزب الواحد أو الشخص الواحد.
إن الأحزاب بكل تشكيلاتها قد ساهمت بقصد أو بدون قصد في الاساءة إلى الحياة السياسية بالمغرب، وذلك بقبولها الدخول منذ البداية في "لعبة" غير مضمونة و معروفة النتائج مسبقا، بفعل الاصطفاف السياسي و الايديولوجي الذي ساد في فترة معينة من تاريخ البلاد، و نتيجة الاحتقان الاجتماعي والسياسي بين من يعتبر نفسه حاميا لكيان الدولة من منطق الإراثة الشرعية والتاريخية، وبين من يعتبر نفسه المحرر والمجدد من منطلق الشرعية الجهادية أو النضالية أثناء فترة المقاومة والتحرير، حيث ظل التجاذب بين الطرفين حائلا دون تثبيت حياة سياسية ديموقراطية حقيقية، الشيء الذي خلق جوا من فقدان الثقة بين الطرفين.
أما من جهة "المخزن"، فقد راهن مهندسوا السياسة آنذاك على مجموعة من النخب من أجل التصدي لمواجهة المد اليساري المتنامي حينئذ. وبالفعل.. عمل هؤلاء على بلقنة الساحة السياسية بتفريخ العديد من الكيانات السياسية والجمعوية ذات الارتباطات المصلحية أو العضوية بالمخزن من جهة، أو عبر تفتيت الأحزاب الكبيرة التي كانت تشكل خطرا على أطروحتة ووضعه، بل كانت تنازعه الشرعية على الحكم. وبالتالي شهدت الساحة انشقاقات متتالية من داخل هذه الأحزاب، سواء الاشتراكية اليسارية كالاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أو الليبيرالية اليمينية كحزب الاستقلال.
وبعد ذلك، توالت الولادات القيصرية للكيانات السياسية إلى درجة لم يعد المواطن يعرف لا عددها ولا حتى بوجودها أصلا، كيانات سياسية تطفو في المواسم الانتخابية من أجل التشويش وتشتيت الأصوات والسمسرة فيها مقابل أموال مدفوعة مسبقا من مهندسي الخريطة السياسية. لكنها بعد انتهاء الموسم الانتخابي تعود لتدخل في بيات سياسي طويل إلى موعد آخر.
إلا أن هذه "الكيانات" السياسية المصطنعة، تَبَيّـن مع مرور الوقت أنها مجرد قنوات للاستفادة من الريع بالنسبة للبعض، ولا علاقة لها بالمواطن ولا بالوطن، فقد أثبتت التجارب أنها أصبحت متجاوزة وغير ذات جدوى، وأن المواطن فقد الثقة فيها، بل في العملية السياسية برمتها، فقد أظهرت الانتفاضات الشعبية العفوية المتتالية أن الشارع تجاوز تلك الأحزاب، و لم يعد ينتظر منها الكثير، حيث فشلت في تأطير و توجيه الجماهير الغاضبة.
ثم إن الشعب ما فتأ يؤكد على فقدانه للثقة في الطبقة السياسية برمتها بعزوفه المتكرر والمتزايد عن العمليات الانتخابية الاخيرة، الشيء أضحى يشكل تهديدا حقيقيا لأي بناء سليم للدولة الحديثة وتبخيسا لمؤسساتها.
لذلك، فقد أدرك "صناع القرار" متأخرين حجم السقطة التي أوقعوا فيها أنفسهم و دفع الأحزاب السياسية إلى الوقوع فيها أيضا. أن أي إساءة مقصودة أو غير مقصودة للمؤسسات والأحزاب التي تم إفراغها من مضمونها الحقيقي، هي إساءة إلى جوهر البناء الديموقراطي بالدولة، بل إلى الدولة نفسها.
إن ذلك الفعل (بلقنة الخريطة السياسية) وإن كان سيبدو مخططا متحكما فيه للوهلة الأولى، إلا أنه سيرتد على هيبة الدولة العميقة نفسها ليسمها هي أيضا بالضعف والوهن والفراغ المبين.. حيث ستفقد هيبتها و تنفلت من بين أيديها مخرجات العملية السياسية والاجتماعية معا، مما سيفسج المجال أمام تنامي الطفيليات السياسوية، وتكريس الحزبية الضيقة المبنية على التعصب المذهبي أو العشائري أو العنصري، كما يخلق البيئة المناسبة لبروز دعوات التطرف والإرهاب يسارا ويمينا.



