رغم الأمطار الأخيرة التي أحيّت آمال الفلاحين.. مخاوف من رياح"الشركي" تضع موسم جني زيت الزيتون على المحك
بعد موسم قاسٍ عاش فيه المغاربة قفزات صادمة في أسعار زيت الزيتون، تلامس 120 إلى 150 درهما للتر الواحد، بعثت الأمطار الأخيرة التي عمت معظم أرجاء البلاد بارقة أمل جديدة لدى الفلاحين، وأنعشت تطلعات المستهلكين نحو موسم أكثر وفرة وأسعار أقل التهابا ووسط سحابة من القلق في صفوف المزارعين المتخوفين من أن تضرب رياح الشركي الحارة مجددا، وتُبدد هذه الامال.
"الأمطار الأخيرة كانت رحمة نازلة من السماء، لا أكثر ولا أقل"، يقول الحاج محمد الزهراوي، فلاح بجهة فاس-مكناس وأحد أقدم مزارعي الزيتون بالمنطقة، في حديثه لـ "الصحيفة"، قبل أن يضيف بنبرة يغلب عليها مزيج من التفاؤل والحذر: "هذه السنة، والحمد لله، شجر الزيتون بدأ يعطي الثمار مبكرا بشكل واضح، والأوراق خضراء ناعمة ومليئة بالحيوية.. هذا مؤشر طبيعي على موسم واعد، إذا حافظت الأجواء على اعتدالها، وتجنّبنا ضربات الشركي القاسية، فسنشهد بإذن الله إنتاجا أفضل بكثير من المواسم الماضية، التي لم نجنِ منها سوى الخيبة والخسائر."
وأردف الفلاح المخضرم، الذي خبر الأرض وتغيراتها لعقود، قائلا: "بوادر النضج ظهرت هذه السنة بشكل أسرع مما اعتدنا عليه، الثمار صغيرة لكنها ممتلئة بالقوة، والأشجار استعادت لونها الطبيعي بعد سنوات من الشح والجفاف الحاد الذي اجتاح المغرب، والذي لم نر له مثيلًا منذ ستين سنة أو أكثر.. كنا نخشى أن تظل الحقول جرداء، ولكن الله لطف بنا."
غير أن الزهراوي لا يخفي قلقه العميق من القادم: "الخوف كل الخوف من رياح الشركي، هذه الرياح الحارة والجافة، إن ضربت الأشجار في هذه المرحلة الحساسة، قد تجهض الموسم كله في أيام معدودة، الفلاحون هنا يعيشون بين فرح مؤجل وخوف مستمر، نترقب السماء صباح مساء، ندعو أن تبقى الأجواء رحيمة حتى موعد الحصاد."
ورغم أن شجرة الزيتون تعتبر من أقدم الزراعات في المغرب وأكثرها تجذرا في ثقافته الفلاحية، إلا أن هذا القطاع يعيش اليوم على وقع تحولات عميقة فرضتها التغيرات المناخية والرهانات الاقتصادية الجديدة، إذ تشير آخر الأرقام الرسمية إلى أن المغرب يخصص حوالي 1.2 مليون هكتار لزراعة الزيتون، ما يمثل أكثر من 55% من مجموع المساحة المغروسة بالأشجار المثمرة في البلاد.
ويمتد هذا الغطاء الأخضر في مختلف جهات المملكة، من فاس ومكناس إلى مراكش وسوس والشرق، حيث يشكل مورد رزق أساسيا لأزيد من 300 ألف فلاح، أغلبهم من صغار المنتجين.
وبحسب معطيات وزارة الفلاحة والصيد البحري المغربية، فإن الإنتاج الوطني من الزيتون بلغ في موسم 2022-2023 حوالي 1.07 مليون طن، مسجلا تراجعا بنسبة 44% مقارنة مع موسم 2021، بفعل شدة الجفاف الذي ضرب البلاد، أما فيما يخص موسم 2023-2024، فقد أظهرت المؤشرات الأولية تحسنا طفيفا في الغلة، دون أن تصل إلى المعدلات القياسية التي كان المغرب قد حققها في سنوات مطيرة سابقة مثل 2018، حين تجاوز الإنتاج 2 مليون طن.
ويُعد قطاع الزيتون أيضا أحد روافد التصدير الفلاحي المغربي، حيث بلغت صادرات زيت الزيتون حوالي 16 ألف طن سنة 2022، بقيمة تناهز 620 مليون درهم، رغم الصعوبات المرتبطة بتقلب الأسعار العالمية واشتداد المنافسة.
وفي ظل هذا السياق، يبدو أن مستقبل موسم 2024-2025 سيكون حاسمًا، ليس فقط لإنقاذ توازن السوق الداخلية، ولكن أيضا لاستعادة جزء من الموقع التصديري للمغرب في الأسواق الأوروبية والأمريكية، التي تعرف بدورها تضخما في أسعار زيت الزيتون بسبب موجات الجفاف المتكررة في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
وفي هذا الإطار، يرى رئيس الجمعية المغربية لمنتجي زيت الزيتون واقتصاد الماء، أحمد بنعيسى، في حديثه لـ "الصحيفة" أن هناك تفاؤلا نسبيًا يسود أوساط المنتجين، موردا: "نحتاج إلى حوالي أسبوعين إضافيين للتأكد من حجم الإنتاج المتوقع بدقة، ولكن المؤشرات الأولية مشجعة.. نرصد نشاطا مبكرا للثمار، مما ينبئ بموسم جيد نسبيا."
وأشار بنعيسى إلى أن الأمطار الأخيرة أنقذت العديد من الضيعات من كارثة محتملة، مؤكدًا أن العوامل الجوية خلال الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة، خاصة فيما يتعلق بدرجات الحرارة ومدى تأثير الرياح الساخنة.
وأضاف المتحدث بالقول: "نحن لا نزال نترقب.. رياح الشركي قد تضرب في أي وقت، وهي العدو الأول للأزهار والثمار الحديثة على أشجار الزيتون، ضربة واحدة قوية قد تتسبب في خسائر بنسبة 30% أو أكثر."
وبعيدا عن منطق المزارعين وحسابات الخبراء الفلاحيين في المجال، يبدو الواقع في السوق أقل تفاؤلا، إذ لا تزال الأسعار مرتفعة، حيث يتراوح سعر اللتر الواحد من زيت الزيتون بين 100 و120 درهما حاليا في أسواق الرباط، سلا، مكناس وأكادير.
وفي هذا الإطار، قال رشيد العلوي، بائع زيتون بالجملة في سوق الخميس بمكناس، لـ "الصحيفة": "الناس متخوفون من الشراء بكميات كبيرة..الكل ينتظر الموسم الجديد، إذا جاء الإنتاج جيدا، فالأسعار ستنخفض تدريجيا، خصوصا بين أكتوبر ودجنبر."
أما بخصوص الموسم المنصرم، فيؤكد العلوي أن الأسعار بلغت مستويات "غير معقولة"، مشيرا إلى أن ارتفاع الكلفة وشح الإنتاج كان السبب الرئيسي في ذلك، وليس فقط المضاربات كما يروج البعض.
وفي جولة لـ"الصحيفة" بسوق باب الأحد الشعبي وسط العاصمة الرباط، عبّر عدد من المواطنين عن امتعاضهم من الارتفاع الكبير في أسعار زيت الزيتون، الذي تجاوز، حسب قولهم، حدود القدرة الشرائية لعدد كبير من الأسر.
وفي حديثها إلينا، تقول السيدة نزهة وهي ربة بيت جاءت للتسوق: "من غير المعقول اقتناء لتر زيت الزيتون بـ130 درهم ! هاد الزيت كان رمز للبركة في كل دار وطبق، وصار اليوم كالذهب... والله العظيم كنا نقتنيه بكمية كبيرة، اليوم بالكاد نأخذ القليل جدا لضرورته في وجبة الفطور"
وتضيف بنبرة يملؤها الترقب: "لا نتمنى اليوم عدا أن تكون أمطار الخير الاخيرة رحمة علينا، يمكن تنزل الأسعار شوية، راه ما بقيناش قادرين."
ويعكس هذا المزاج الشعبي الغاضب والمترقب في آن، وضعا اجتماعيا حساسا باتت فيه أسعار زيت الزيتون تشكل مؤشرا يوميا على قدرة المواطن المغربي على مجاراة تقلبات السوق، وبين أمطار الخير التي بعثت الأمل في نفوس الفلاحين، وتخوفات المستهلكين من استمرار لهيب الأسعار، يبدو أن موسم الزيتون المقبل بات محمّلاً بانتظارات تتجاوز المجال الفلاحي لتلامس صميم الاستقرار الاجتماعي والمعيشي.
أما الخبير الفلاحي عبد الكبير بوصوف فيحذر بدوره من المخاطر المناخية قائلا في حديثه لـ "الصحيفة": رياح الشركي هي عنصر حاسم، إذا جاءت الرياح الساخنة في فترة التزهير أو بداية عقد الثمار، فإن المحصول سيتضرر بشدة، ويصبح الحديث عن موسم وفير حينها ضربا من التمني."
ويضيف بوصوف، أن التأثيرات لا تقتصر على كمية الإنتاج فقط، بل تطال أيضا جودة الزيت نفسه، إذ تؤدي الحرارة والجفاف المفرطان إلى ارتفاع نسبة الحموضة وانخفاض جودة العصير المستخرج.
وفي ظل أجواء الترقب التي تسود بين التفاؤل والحذر، تواصلت "الصحيفة" مع مصدر مسؤول بوزارة الفلاحة، فضل عدم الكشف عن هويته، فأكد أن الوزارة "تتابع الوضع الميداني بدقة، وتتلقى تقارير منتظمة من المديريات الجهوية حول تطور حالة الزيتون ومؤشرات الإنتاج الأولية".
وقال المصدر في تصريح لـ"الصحيفة":نحن واعون بأن الموسم الحالي يحمل رهانات استثنائية، بالنظر إلى ما شهده الموسم السابق من تراجع حاد في الإنتاج وارتفاع غير مسبوق في الأسعار، وهو ما ألقى بظلاله ليس فقط على الفلاحين بل على التوازن الاجتماعي بصفة عامة.. لهذا السبب، تم تفعيل جملة من الإجراءات الاستباقية، بتنسيق مع الغرف الفلاحية والجهات المختصة، لدعم الفلاحين خصوصا في المناطق المتضررة."
وأضاف المصدر ذاته: "الوزارة بصدد تنزيل برنامج موسع لدعم الفلاحين الصغار، يتضمن تعزيز تقنيات السقي بالتنقيط، وتحسين سلاسل تخزين المياه وتوزيعها، خاصة في المناطق الجافة وشبه الجافة.. كما نعمل على مراجعة آليات الإرشاد الفلاحي، من خلال إطلاق حملات تحسيسية جديدة حول أهمية التكيف مع التغيرات المناخية، واعتماد ممارسات زراعية ذكية تناسب واقع الزيتون في المغرب."
وشدد المسؤول ذاته على أن التحدي اليوم لم يعد مرتبطا فقط بكميات الإنتاج، بل بكيفية تأمين ديمومة السلاسل الإنتاجية في ظل مناخ متقلب ومخاطر متكررة: "علينا أن نخرج من منطق التدبير بالموسم إلى منطق التخطيط بعيد المدى، خاصة في قطاع حساس كالزيتون الذي يشغّل مئات الآلاف من الأسر في المغرب."
ولا يختزل موسم الزيتون المقبل في مجرد معادلة إنتاج وأسعار، بل يتحوّل إلى مرآة تعكس بوضوح عمق التحديات البنيوية التي تواجه النموذج الفلاحي المغربي، فشجرة الزيتون الصامدة التي قاومت قرونا من التقلبات البيئية والاقتصادية، تبدو اليوم مرهقة أمام قسوة المناخ، وتفاوت الإمكانيات، وضبابية الرؤية الاستراتيجية في التعامل مع المواسم المتطرفة.
وما يحدث اليوم في ضيعات الزيتون من ترقّب، ليس سوى التعبير الأكثر وضوحا عن هشاشة توازناتنا الزراعية، وعن الحدود التي تبلغها سياسات الدعم عند أول عاصفة أو موجة حر، فالمطر حين يسقط، لا ينقذ الأشجار وحدها، بل يكشف أيضا هشاشة الأرض التي لا تجد من يهيئ لها نظاما يحصنها من المفاجآت.
وفي غياب خطة بعيدة المدى تربط بين الإنتاج والتخزين، وبين التثمين والتسويق، وبين الفلاح البسيط والأسواق الدولية، سيظل زيت الزيتون، برغم قداسته الغذائية والرمزية، سلعة تخضع لرحمة الطقس، والمضاربات، والانتظارات.
وسيكون موسم زيت الزيتون القادم لحظة فارقة، لا لقياس معدل الأمطار أو عدد اللترات المنتجة، بل لاختبار قدرة الدولة على استباق الأزمات بدل التفاعل معها، وعلى تحويل الشجرة إلى سياسة، والموسم إلى نموذج إنقاذ لا مجرد نشرة فلاحية تنتهي بانتهاء الحصاد.





تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :