سعيّد تحت المجهر.. لماذا تصر الحكومة التونسية على إنكار استهداف سفن "أسطول الصمود" بمسيرات إسرائيلية داخل موانئها؟
شهدت تونس خلال الأيام الأخيرة جدلا واسعا عقب واقعتي استهداف سفن أسطول الصمود العالمي الراسية في ميناء سيدي بوسعيد، والتي اتهم منظموها إسرائيل بتنفيذ هجمات بطائرات مسيّرة على مقربة من القصر الرئاسي في قرطاج، فيما تصر السلطات التونسية من جانبها على نفي الرواية والتقليل مما وقع، معتبرة أن ما حدث "لا يعدو أن يكون حادثا عرضيا سببه سيجارة أو ولاعة داخل سترة نجاة"، وهو ما رأت فيه الصحافة الإيطالية والدولية محاولة مكشوفة للتستر على الاعتداء، فيما اعتبرت أوساط تونسية أن الحادثة تكشف مرة أخرى هشاشة موازين القوى وحرج الموقف السياسي المحلي.
تفاصيل الحادثة بدأت مع نشر النشطاء مقاطع فيديو توثق سقوط جسم مشتعِل من السماء على سطح سفينة "فاميلي بوت" التي ترفع العلم البرتغالي، ما أدى إلى اندلاع حريق تمت السيطرة عليه، فيما وبعد ساعات فقط، سُجّل استهداف ثانٍ لسفينة "ألما" التي ترفع العلم البريطاني وتضم ناشطين من 44 دولة، من بينهم السويدية غريتا تونبرغ، وهنا النشطاء تحدثوا عن طائرات مسيّرة حلّقت على ارتفاع منخفض وأطلقت قنابل حارقة، فيما أكد البرتغالي ميغيل دوارتي أنه كان شاهد عيان على الهجوم، إذ رأى الطائرة بعينيه وهي تلقي بما أشعل النار فوق سطح السفينة.
ورغم هذه الشهادات والوثائق المرئية، نفت وزارة الداخلية التونسية بشكل قاطع فرضية الهجوم، وأصدرت بيانا تؤكد فيه أن التحقيقات الأولية أظهرت أن الحريق سببه ولاعة أو سيجارة مشتعلة في سترة نجاة، وهو ما سبق وأكدته أيضا مصادر أمنية تحدّثت لـ "الصحيفة" أول أمس الثلاثاء.
الحرس الوطني بدوره شدد على أنه لم يتم رصد أي طائرة مسيّرة في الأجواء، وهذه الرواية الرسمية وُصفت بالساذجة والمثيرة للسخرية، ليس فقط من طرف النشطاء، بل أيضًا من جانب الصحافة الإيطالية التي التقطت التناقض الواضح بين الصور والفيديوهات المنتشرة وبين الموقف التونسي الرسمي.
وخصصت صحيفة "بانوراما" الإيطالية تقريرا مطوّلا سلطت فيه الضوء على ما وصفته بمحاولة السلطات التونسية التستر على اعتداء إسرائيلي خطير وقع في ميناء سيدي بوسعيد.
التقرير أشار إلى أن الأدلة المرئية التي نشرها النشطاء بما فيها الصور والفيديوهات تظهر سقوط جسم مشتعِل من السماء على سطح سفينة "فاميلي بوت"، لا تترك مجالا كبيرا للشك في فرضية الهجوم بطائرة مسيّرة.
واعتبرت الصحيفة أن ما زاد المشهد غموضا هو الطريقة التي تعاملت بها السلطات الأمنية التونسية مع بقايا الأدلة، إذ نقلت عن المنسق الإيطالي للأسطول توني لابيتشياريلا قوله إن ضابطين تونسيين صعدا على متن السفينة بعد الحادثة، ولم يحرصا على حفظ ما تبقى من القطع المحترقة كأدلة، بل عمدا إلى التخلص منها، الأمر الذي فُسِّر على أنه رغبة من الدولة في محو أي أثر يثبت تورط طرف خارجي.
ووصفت الصحيفة هذه الخطوة بأنها "مراوغة متعمدة" من جانب تونس التي لم تشأ الاعتراف بأن إسرائيل ضربت مرتين في مرفأ لا يبعد سوى كيلومترات قليلة عن القصر الرئاسي في قرطاج، محذّرة من أن هذا التستر يضعف صورة الدولة ويجعلها في موقف من يتغاضى عن انتهاك مباشر لسيادته.
أما صحيفة "مانيفستو" الإيطالية فقد اختارت مقاربة أكثر سخرية في معالجتها للموضوع، حيث تصدرت غلافها صورة لاحتجاجات داعمة لفلسطين مرفقة بعنوان لافت" السيجارة الطائرة، هكذا يريد سعيد تفادي التصعيد" .
الصحيفة اعتبرت أن الرواية الرسمية التونسية التي أصرت على تفسير الحريق بأنه ناجم عن سيجارة أو ولاعة داخل سترة نجاة أشبه بالنكتة، ووصفته بأنه "اختلاق ساذج" لا يقنع حتى أبسط المتابعين، فبالنسبة إليها، إصرار السلطات على هذه القصة يترجم استراتيجية واضحة للرئيس قيس سعيد تقوم على تجنّب الاعتراف بواقعة لو أُقرت رسميا لكانت بمثابة إعلان اعتداء إسرائيلي على السيادة الوطنية، بما يستوجب ردا سياسيا أو أمنيا لم تُعد له تونس العدة، وقد رأت أن "أسطورة السيجارة الطائرة" ليست سوى أداة دبلوماسية للهروب إلى الأمام وتفادي أي تصعيد قد يضع تونس في قلب مواجهة إقليمية لا تستطيع تحمّلها، لكنها في المقابل أضرت بمصداقية الدولة أمام الرأي العام الدولي وأعطت انطباعًا بأنها تفضل المواربة على قول الحقيقة.
أما المقررة الخاصة للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيزي، فقد علّقت على الحادثة محذّرة من أن ما جرى إذا تأكدت صحته يمثل اعتداء على سيادة تونس وخرقا واضحا للقانون الدولي، فيما وبالنسبة للنشطاء، الأمر لا يحتمل التأويل لقد كان هجوما إسرائيليا هدفه بث الرعب وإجهاض الرحلة التضامنية قبل انطلاقها نحو غزة.
وفي الداخل التونسي، تباينت ردود الفعل إذ كتب محسن مرزوق، السياسي المعروف، أن الحادثة تكشف الفرق بين الخطاب العاطفي والواقع القاسي لموازين القوى، محذرا من الانجرار وراء الشعارات دون امتلاك وسائل فعلية للدفاع عن السيادة، وفي المقابل، كتبت الإعلامية ليلى شعيب أن الأولوية يجب أن تبقى الحفاظ على استقرار الدولة، وأن ما حدث لا ينبغي أن يتحول إلى عنصر فوضى داخلية أو إلى مدخل لتأزيم الوضع السياسي الهش.
وحاولت "الصحيفة" منذ صبيحة اليوم فتح قنوات تواصل مع الحكومة التونسية والسلطات الأمنية المختصة قصد الحصول على معطيات رسمية بخصوص الاعتداء الثاني الذي استهدف سفن أسطول الصمود في ميناء سيدي بوسعيد، غير أن كل المساعي باءت بالفشل، إذ لم يصدر أي رد رسمي حتى لحظة كتابة هذه السطور، ما يزيد من ضبابية الموقف ويعزز الانطباع بوجود رغبة في تفادي التعليق المباشر على الحادثة.
وفي ظل هذا الصمت الرسمي التونسي، تستحضر الذاكرة حادثة دامية لا تزال محفورة في تاريخ البلاد، وهي الغارة الجوية الإسرائيلية على ضاحية حمام الشط يوم الأول من أكتوبر 1985، حين قصفت طائرات "إف-15" إسرائيلية مقر منظمة التحرير الفلسطينية.
العملية، التي أطلق عليها اسم "القدم الخشبية" جاءت على بعد آلاف الكيلومترات من الأراضي المحتلة، وأسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 68 شخصًا بينهم مدنيون تونسيون، وإصابة أكثر من مائة آخرين، إضافة إلى تدمير شامل لمقر المنظمة ومباني مجاورة وآنذاك، وُجهت أصابع الاتهام مباشرة إلى إسرائيل، ولم تنكر هي نفسها مسؤوليتها، بل أعلنت أن العملية جاءت ردًا على هجوم نفذه مقاتلون فلسطينيون ضد أهداف إسرائيلية.
ردّ الفعل التونسي في ذلك الوقت كان حادا وقويا، فقد أدان الرئيس الحبيب بورقيبة بشدة ما وصفه بالعدوان الغادر على السيادة الوطنية، وسارعت الحكومة إلى تقديم شكوى رسمية لمجلس الأمن، والنتيجة كانت صدور القرار رقم 573 بالإجماع، الذي أدان إسرائيل وطالبها بتعويض تونس عن الخسائر البشرية والمادية الجسيمة.
وقد شكّلت تلك اللحظة محطة مفصلية في الدبلوماسية التونسية، إذ حظيت بمساندة واسعة من مختلف العواصم العربية والدولية، وتمكنت تونس من تحويل الاعتداء إلى ورقة قوة سياسية ودبلوماسية عززت صورتها كدولة صغيرة تواجه عدوان قوة إقليمية.
غير أن المفارقة الصارخة اليوم أن السياق يبدو معكوسا، ففي حين وثقت العدسات وأشرطة الفيديو اعتداء جديدا في ميناء سيدي بوسعيد يُتهم فيه الطيران المسيّر الإسرائيلي بالمسؤولية، تصر تونس الرسمية على النفي والتقليل من شأن ما وقع، معتبرة أن الأمر لا يعدو أن يكون حادثًا عرضيًا سببه سيجارة أو ولاعة.
وبينما كان موقف تونس عام 1985 جريئا في فضح إسرائيل وحشد الدعم الدولي ضدها، تجد نفسها اليوم في موقع الدفاع، متهمة بمحاولة التستر على خرق أمني خطير وقع على بُعد كيلومترات قليلة من القصر الرئاسي وهذا التباين في المواقف يجعلها عرضة لانتقادات داخلية ودولية حادة، ويفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول حسابات السلطة الحالية، وحدود قدرتها على الموازنة بين خطابها المعلن الداعم لفلسطين وبين إكراهات السياسة الواقعية والخوف من الانجرار إلى مواجهة لا تملك أدواتها.



