سيميائية التراث والمسؤوليات في عصر العولمة – القفطان المغربي نموذجاً –
مقدمة: الطقوس و الأزياء
اللباس التقليدي المغربي بين البعد المحلي والعالمي
خلال أي احتفال أو مناسبة دينية بالمغرب، يُجسِّد اللباس التقليدي، وعلى رأسه القفطان، التماسك الهوياتي للأمة وتشبث المواطنين بموروثهم الثقافي. وعلى منصات عروض الأزياء الدولية في باريس أو غيرها، يتحول القفطان، أحد الأزياء المغربية التقليدية، إلى علامة فاخرة تُحيل إلى إشراق متخيَّل للرونق الشرقي والأندلسي بالمملكة. وفي الاحتفالات الوطنية الرسمية، يصير مجسِّداً لظاهرة الصناعة التقليدية المغربية التي أضحت، في الآونة الأخيرة، موضع اهتمام متزايد لدى الفاعلين في الحقل الثقافي اللامادي ومهارات الفنون العتيقة.
الجذور التاريخية والمفارقة العالمية
يُعدّ القفطان المغربي من أقدم الأزياء التقليدية في العالم، ورمزًا راسخًا للأناقة والهوية المغربية، إذ تعود جذوره إلى القرن الثاني عشر في عهد الدولة الموحدية، حيث كان لباسًا مهيبًا للسلاطين عبر العصور المرينيةوالوطاسية والسعدية والعلوية ، قبل أن ينتقل تدريجيًا إلى الفضاء النسائي ويصبح جزءًا أساسيًّا من نظام الدلالات المغربية، لكن كل هذه الحمولة الرمزية الكثيفة تكشف المفارقة المركزية التي تؤطر هذا التحليل: فكلما تعمَّق حضور القفطان في الفضاء العالمي، اشتد الجدل حول أصالته المحلية ودلالاته الرمزية وشرعية ملكيته الفكرية.
في هذا المنوال، لم يكن تسجيل القفطان المغربي ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية من طرف منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة حدثاً تقنياً محضاً، بل شكّل لحظة رمزية كثيفة الدلالة، انتقل فيها القفطان من «العلامة الخاصة» إلى «العلامة المشاعة»، مما خلق احتكاكاً سيميائياً بين ذاكرة الجسد وذاكرة الأرشيف العالمي، وأفرز صراعًا جهويًا حول ارتباطه بطقوس وثقافة بعض البلدان المجاورة.
وقد اخترق صدى هذا الحدث الحقلَيْن الأكاديمي والمؤسساتي، ليُعيد إلى الواجهة أسئلة مؤجلة حول الهوية، والأصالة، والتملك الثقافي، ومسؤوليات الدولة والمجتمع في صون التراث وإدارته. فبينما استُقبل هذا الاعتراف الدولي بوصفه تتويجاً مستحقاً لمسار تاريخي طويل للمملكة، أعاد في الآن ذاته إحياء نقاشات قديمة حول الجذور، والانتساب، والمعنى.
باعتباره زيًا دبلوماسيًا للسفراء المغاربة خلال القرن التاسع عشر، كان يُهدى إلى الأسر الحاكمة عبر العالم أو تكريمًا لزوار المغرب، حتى إن السلطان عبد الرحمان بن هشام أمر بتوزيع القفطان على اللاجئين الجزائريين الفارين من الاحتلال الفرنسي. لقد تحوّل القفطان، بما هو لباس للجنسين، إلى علامة ثقافية مشحونة بالدلالات المتصارعة، تتقاطع عندها سرديات وطنية، وقراءات تاريخية متنافسة، وحساسيات هوياتية متباينة. وباعتباره رمزًا تمثيليًا للباس التقليدي المغربي، يتخذ هذا التحليل القفطان نموذجًا دالًا على الصناعة التقليدية في مجال الأزياء.
القفطان وجدل هويته المغربية
يتبلور الصراع حول القفطان بوصفه نزاعاً سيميائياً على شرعية الأصل وحدود الدلالة، لا كخلاف تاريخي تقني، بل كمعركة تأويلية حول السيادة الرمزية. فمن جهة، تنظر مقاربة «التفاعل التاريخي» إلى القفطان كعلامة هجينة عابرة للحدود، تشكلت عبر تراكب حضارات متعددة، وهو ما يؤدي إلى نزع صفة الحصرية عنه وجعله نصاً تراثياً مشتركاً يصعب حصر ملكيته في إطار وطني محدد. ومن جهة أخرى، يؤكد الخطاب المدافع أن جوهر الصراع لا يكمن في الجذور البعيدة، بل في مسار التوطين والإبداع، حيث خضعت العناصر الوافدة لعملية تكييف تاريخي طويل أنتج ذوقاً مغربيا مميزاً، مرتبطاً بسياقات طقوسية وجهوية دقيقة لا تتكرر خارج المجال المغربي.
وفي هذا السياق، يتحول النقاش حول الأصول إلى صراع على «الحدود السيميائية» للمغربية نفسها، بين من يسعى إلى تذويبها في سيولة التاريخ الكوني، ومن يعمل على تثبيتها كعلامة ثقافية خاصة تعبر عن التمغربيت. وهكذا يغدو القفطان دالاً مشحوناً بسرديات متنافسة، وساحة تفاوض دائم بين تأويلات متعارضة، يُعاد من خلالها شحن التراث أو تفريغه دلالياً بحسب الفاعلين وأنظمة القيم المستدعَاة، في تجلٍّ واضح لنزاع أعمق حول الهوية والاعتراف والملكية الرمزية
القفطان كرمز للتتغربيت
إن اعتبار القفطان «علامة مشحونة» يقتضي تفكيك آليات هذا الشحن الدلالي، أي الانتقال من توصيف الرمز إلى تحليل كيفية إنتاج معناه حسب الخلفية والمضمون. فاللباس المغربي العريق لا يحمل دلالته في ذاته، بل يكتسبها عبر ممارسات اجتماعية وخطابية متكررة: في الإعلام حين يُقدَّم بوصفه «لباساً وطنياً»، وفي الاحتفالات الرسمية حيث يُربط بالهيبة والتمثيل السيادي، وفي الأعراس حيث يرمز إلى الانتقال الطقوسي والوجاهة الاجتماعية. هكذا يتحول من لباس وظيفي إلى دالٍّ ثقافي، تُعاد شحنته أو يُعاد تدوير مدلوله بحسب السياق، والفاعل، ونظام القيم المستدعى لتأويله.
وتتجلى حدة هذا الصراع الدلالي على المسرح السيميائي في محاولات التملك أو «السطو» الرمزي على هذا الموروث، كما ظهر في بعض الاعتراضات التي طالت ملف تسجيل القفطان ومهاراته ضمن التراث العالمي غير المادي.
ويزداد هذا التوتر تعقيداً في سياق العولمة الثقافية التي باتت واقعاً يفرض نفسه، حيث يتجاور الاعتراف الرمزي العالمي مع مخاطر التسليع، والتقليد الصناعي، وتهميش الحرفيين الحقيقيين الحاملين للمهارات وفن الصناعة التقليدية، وتحويل التراث إلى مجرد «محتوى» استهلاكي منزوع السياق ومجرد من بطاقة التعريف.
فالعولمة ليست فضاءً محايدًا تُلقى فيه نظرات الآخر، بل مجالًا يُعاد فيه إنتاج العلامات الثقافية وفق منطق العرض والطلب الرمزي. لكن عندما ينتقل القفطان إلى منصات الموضة الدولية، يُعاد تشكيله كعلامة هجينة تتفاوض بين مقتضيات السوق العالمية ومتطلبات الأصالة الشرعية.
هنا لا يعود السؤال: كيف سيتم حماية القفطان من العولمة ؟ بل يصبح: كيف سيتم فرض دلالاته داخل إنتاجه دون تفريغه من معناه الاجتماعي والتاريخي ؟
من هذا المنطلق وقصد الانتقال من سيميائية الوصف إلى سيميائية الفعل والسلطة، لا يسعى هذا المقال إلى الحسم في جدل هوياتي بطبيعته مفتوح، بل إلى تفكيكه عبر مقاربة سيميائية تعتبر التراث المغربي – والقفطان نموذجاً – كنظام علامات متراكبة، تتيح الانتقال من منطق الدفاع الانفعالي إلى منطق المسؤولية؛ أي مسؤولية الدولة، والمؤسسات، والمجتمع المدني في صون معنى التراث لا شكله فقط، بل تحويل الاعتراف الرمزي إلى ممارسة حكامة واعية.
أولاً: المقاربة السيميائية — الثقافة المغربية كنظام علامات متراكبة
القفطان كنص تناصي مفتوح
يتيح التحليل السيميائي، مستفيداً من إطار نظرية » أسطورة « العلامة الثقافية ونظرية »النصوص المفتوحة«، بفهم التراث المغربي لا بوصفه كتلة متجانسة، بل باعتباره نصًا تناصيًا (Intertextuel) يلتقط في ثناياه شفرات ثقافية متعددة. فالقفطان، بهذا المعنى، ليس مجرد لباس، بل هو نسيج من الشهادات الثقافية. فنقوش التطريز تحيل إلى ذاكرة الشرق والأندلس، وألوان الصباغة النباتية تروي حكاية علاقة بالثقافة الإفريقية، وقطع »السفيفة « تختزل جغرافيا من التبادلات ما قبل الوطنية. وبالتالي، فإنه نص مفتوح، قابل لقراءات متعددة، تتقاطع عندها التأويلات التاريخية مع الرغبات الهوياتية المعاصرة.
طبقات المعنى السيميائية
الطبقة الأمازيغية: الأرض والاستمرارية
يشكّل الأساس الأمازيغي دالًّا أوليًّا على العلاقة بالأرض، والاستمرارية، والاقتصاد الرمزي للجماعة، من خلال اللغة، وأبجدية تيفيناغ، والرموز الهندسية في الحلي والوشم، وقيم التضامن والكرم، كما يتجلى في قفطان «إسملال» السوسي.
الطبقة العربية الإسلامية: التنظيم والامتداد الحضاري
ثم جاءت الطبقة العربية-الإسلامية لتضيف نظامًا دلاليًّا قويًّا نظّم الفضاء الاجتماعي والروحي والجمالي، وربط المغرب بمجال حضاري أوسع عبر العمارة، والخط، والفقه المالكي، كما في قفطان «النطع» الفاسي، والطقوس الدينية. أمّا الإرث الأندلسي والموريسكي، كما يمثله القفطان التطواني، فقد أدخل الحرفيون المغاربة منطق الأناقة المركّبة، والدقة الفنية، والتوليف الجمالي العالي، في الزليج، والجبس المنقوش، والخشب، والموسيقى، وفنون العيش عامة.
التراكم اليهودي والصحراوي: التعايش والعبور
ويُكمل التراكم اليهودي المغربي هذا النسيج بوصفه علامة على التعايش التاريخي والإنتاج المشترك للمعنى كأشكال صياغة الحلي والأنسجة (اللبسة الكبيرة أو البربيسكا) وفن غناء »الشڭوري» ، فيما تعبّر الطبقات الصحراوية وما عبر الصحراء عن أفق إفريقي وروحي عميق، يتجاوز منطق الاستقرار إلى منطق العبور.
الحداثة والعولمة: شدّ وجذب دلالي
وأخيراً، جاءت الحداثة والعولمة لتضيف طبقة معاصرة من العلامات، تتجلى في العمارة الحديثة، واللغات الأجنبية، والإعلام الرقمي، والموضة العالمية، في علاقة شدّ وجذب دائمة مع الطبقات التاريخية، لتصبح الثقافة المغربية، مجازًا، كبصلة متعددة الطبقات، ساقها ملتصق بالأرض وأوراقها اللحمية تختزن الموروث الثقافي لكل حقبة تاريخية، وجذورها الليفية تعبر عن التمغربيت، الدالة على الهوية المغربية.
في قلب هذا النظام السيميائي المركب، تبدو عملية تحويل القفطان من دال مادي (قماش، تطريز، لون) إلى مدلولات رمزية سيادية (أصالة، هوية، فخامة) عملية اجتماعية وسياسية يومية. ففي الخطاب الإعلامي المغربي، غالباً ما يُقدَّم القفطان في المناسبات الوطنية كـ"جوهرة التاج" الثقافي، في عملية شحن وطنية. بينما في عروض الأزياء، تُفرَّغ هذه الدلالات الوطنية جزئياً لتحل محلها دلالات الجمال والرفاهية والتفرد.
أما في الخطابات الشعبية، خاصة على منصات التواصل، فيُعاد شحنه بدلالات جديدة متعلقة بالتملك الشعبي والاعتراض على» تسليعه « أو »تجييره « من قبل النخب. إنها سيرورة مستمرة من الترميز وإعادة الترميز، تظهر أن معنى القفطان ليس جوهراً ثابتاً، بل هو محصلة صراع تأويلي دائم، مطالب بالتطوير والتكييف المتواتر.
لكن هذه» الخريطة المخطوطة» لا تخلو من بياضات صامتة. فثمة علامات لم تُدمج بعد في السرد الرسمي، أو تم دمجها بشكل هامشي. التأثيرات الإفريقية جنوب الصحراء، على سبيل المثال، غالباً ما تُقدَّم كـ"إضافة" خارجية، لا كعنصر تكويني في النسيج الثقافي المغربي المتوسطي والإفريقي. كما أن الممارسات الشعبية الحية المرتبطة بالحِرَف التقليدية، خارج الأطر المؤسسة والمعترف بها، تبقى خارج نظام العلامات الرسمي. حتى داخل تراث القفطان نفسه، تظل تقنيات وأشكال جهوية معينة (كبعض أشكال القفطان الفاسي أو الرباطي) أقل حضوراً في التمثيل الرسمي من أشكال المدن الكبرى. هذه الصمتات تكشف عن جغرافيا للسلطة في إنتاج المعنى الثقافي.
ولا ينبغي تصور هذا التراكب السيميائي كتراكم متناغم. فطبقات المعنى تتصارع وتتناقض أحياناً. كيف يمكن التوفيق، مثلاً، بين الدلالات المحافظة المرتبطة بالحشمة في الخطاب الديني التقليدي، وبين دلالات التبرج والعرض الجسدي التي تروج لها مجلات الموضة العالمية ؟ كيف تتعامل السردية الوطنية مع التوتر بين التأكيد على الجذور الأمازيغية وتكريس الهوية العربية الإسلامية؟ غالباً ما تُحل هذه التناقضات عبر آليات » الاستيعاب الانتقائي « أو » التهميش الضمني « . فالنظام السيميائي ليس متحفاً سلبياً، بل هو ساحة تفاوض دائم، حيث تنتصر بعض العلامات على أخرى، وتُخفي بعض الطبقات طبقاتٍ أخرى، في لعبة من القوة والذاكرة.
الجسد كدال سيميائي
منطقيًا، لا يمكن فصل دلالات القفطان عن جسد حامله. فالجسد ذاته يتحول إلى دال مشارك في هذه المعادلة السيميائية. القفطان النسائي المغربي التقليدي، بخصره المُبرَّز وأكمامه الواسعة، يصوغ جسداً أنثوياً محدداً، مختلفاً عن صياغة الجسد في الأزياء الغربية. ولكن عندما يرتدي القفطانَ رجالٌ في سياقات احتفالية، أو عندما تعيد مصممات عصرنةَ خطوطه ليتناسب مع أجساد وأذواق معاصرة، تتولد دلالات جديدة.
الجسد الشاب يحمل القفطان بشكل مختلف عن الجسد الشيخ، والجسد الحضري يلبسه بشكل مختلف عن الجسد الريفي. كل هذه الاختلافات تذكرنا بأن العلامة الثقافية لا تعيش في الفراغ، بل تتجسد وتتغير مع تغير الأجساد والسياقات التي تحملها.
تقنيًا، يتكون القفطان المغربي أساساً من ثوب فضفاض وأكمام طويلة، ويتميز بـالتطريز اليدوي الدقيق بخيوط ذهبية أو حريرية، و »السفيفة « أي الشريط المزخرف، و » العقاد « أي الأزرار التقليدية، بالإضافة إلى الحزام الذي يلتف حول الخصر »المضمة« والمصنوع من قماش فاخر ومزين بالأحجار الكريمة، ويُصنع من أقمشة فاخرة كالحرير والمخمل. وكل هذه العناصر المكونة للمنوج التقليدي تحمل دلالات ثقافية ترمز إلى فنون الحرف التقليدية والهوية المغربية المتعددة الجذور.
في قلب هذا النظام السيميائي المعقد الذي يحمله القفطان، يقف هذا المنتَج باعتباره نموذجاً مكثفاً لهذا التراكب: فقصّته، وأقمشته، وتقنيات تطريزه ومناسبات ارتدائه، تختزل تأثيرات أمازيغية، وأندلسية، وعثمانية، وإفريقية. إن الجدل حول أصوله يكشف صعوبة البحث عن "دال نقي" في جسم تشكّل تاريخياً من التفاعل والتبادل.
ومن هنا، فإن تسجيله في اليونسكو لا يختزل معناه، بل يضاعف مسؤوليته، لأنه حوّله من علامة محلية إلى رمز عالمي، يستدعي حكامة ثقافية مستنيرة. ويجعل منه أداة موحِّدة في ظل العولمة التي تفرض الانشطار الهوياتي عبر تعميم ثقافة كونية.
ثانياً: من الحفاظ التقني إلى حكامة المعنى — إعادة بناء المسؤوليات المؤسساتية
الحكامة الثقافية بوصفها سلطة رمزية
يضع هذا الجدل وزارة الثقافة أمام مسؤولية تتجاوز الحفظ التقني أو الاحتفاء الرمزي، لتشمل دور الوسيط، والمنظّم، والفاعل السيميائي في فضاء ثقافي أصبح مشحوناً سياسياً وإعلامياً. لكن مفهوم »حكامة التراث« نفسه يحتاج إلى تفكيك سيميائي. فخطاب »الحكامة« هذا ينتج بدوره علامات جديدة للسلطة: علامات »الاعتراف الرسمي«، و »الشهادة«، و »التوثيق«، و »الترخيص«. عندما تتحول ممارسة شعبية حية (كصناعة وارتداء القفطان) إلى "تراث" يُدار، فإنها تخضع لمنطق بيروقراطي يفرز مشروعية جديدة. من يُعترف به "حرفياً تقليدياً"؟ من يحدد »المواصفات الأصيلة« ؟
هذه الأسئلة ليست تقنية بحتة، بل هي أسئلة سلطة تتحكم في من يملك الحق في التحدث باسم التراث، ومن يُستبعد. الحكامة الثقافية، بهذا المعنى، ليست مجرد إدارة محايدة، بل هي ممارسة لإنتاج وتوزيع رأس مال رمزي.
إن الانتقال نحو الحكامة الثقافية الحقة يقتضي تفعيل ثلاث أدوات سيميائية أساسية: المنخل، والمصفاة، والمثلث السيميائي.
التشريع عبر» المنخل السيميائي « للهوية التركيبية (La Passoire Sémotique)
بدلاً من البحث عن »نقاء عِرقي« متخيّل للقفطان، يجب أن يتأسس التشريع الثقافي على مفهوم »الهجنة الواعية . « المطلوب هو إطار تشريعي جديد يعترف بالتراكب والهجنة بوصفهما جوهر الثقافة المغربية. تشريعٌ يؤطر مفهوم »العلامة الثقافية المتقاطعة«، ويحوّل التفاعل التاريخي من موضع شك إلى قيمة قانونية.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية إرساء »بطاقة الجذور الثقافية « كأداة توثيق وحماية، لا تكتفي بتصنيف المنتوج، بل تروي سلالته التاريخية والدلالية، وتمنحه شرعية تقوم على التعقيد لا على الاختزال. التشريع هنا يعمل كـمنخل يفرز الإضافات الجمالية التي تُغني التراث عن تلك التي تساهم في تبخيسه.
حماية الحرفي » كـمصفاة سيميائية « للذاكرة الحية (Le Filtre Sémotique)
لا أحد يشك أن قيمة التراث تكمن في حاملي مهارات إنتاجه. الحرفي ليس مجرد يد عاملة، بل هو »المصفاة «التي تعيد تأويل التاريخ عبر الجسد. إن مسؤولية الدولة تقتضي الاستثمار في »الكنوز البشرية الحية «عبر برامج نقل ممنهجة، تضمن استمرارية التقنيات الدقيقة المهددة بالاندثار، وتحمي الحرفيين من التهميش الاقتصادي. يجب تحويل هذه الكفاءات من مستوى مفهوم فلكلوري إلى مستوى »سلطة معرفية «مسؤولية الدولة تكمن في حماية المعنى الكامن في أصابع المعلم، لأن ضياع التقنية اليدوية لصالح الميكنة هو انتقال من »الفن كقيمة« إلى »المنتج كبضاعة«. الحكامة هنا تعني ضمان أن يظل الحرفي هو »المرشح« الذي يمنع دخول الابتذال إلى هندسة القفطان.
الوساطة الرقمية والتربية على القراءة السيميائية
في زمن الإمكانيات الهائلة للذكاء الاصطناعي وتطور الشبكات الاجتماعية وتسطيح النقاش العمومي عبر دَمقَرَطَتِه، يصبح التبسيط خطراً ثقافياً. هنا تبرز مسؤولية الدولة في بناء وعي تأويلي جماعي، عبر إدماج التربية السيميائية في المناهج التعليمية. إذ أصبح من الضروري الانتقال من الدفاع الانفعالي إلى »التربية التأويلية«، عبر إطلاق منصات وساطة تربط بين أضلاع المثلث السيميائي الثلاثة:
الجوهر (Le Fond): شرح الفلسفة الإنسانية خلف القفطان (الستر، الهيبة، الطقس الجنائزي أو الاحتفالي).
الديكور (Le Décor): ربط القفطان بجغرافيته الرمزية (فاس، تطوان، الرباط...) كفضاءات لإنتاج المعنى.
الشكل (La Forme): تدريس سيميائية اللباس للمواطن ليصبح قادراً على تمييز القفطان الحقيقي من المحاكاة السطحية.
المواطن الواعي، أو »المواطن السيميائي«، هو خط الدفاع الأول عن التراث ضد الاختزال والاستلاب.
»صنع في المغرب« ، علامة أخلاقية في المسرح السيميائي
إن تعزيز علامة » صنع في المغرب « يجب أن يتجاوز منطق المنشأ الجغرافي إلى منطق السلسلة القيمية الكاملة. يجب أن تصبح هذه العلامة ميثاقاً سيميائياً و توقيعاً وجودياً يحمي "الفعل الإبداعي" من »الاستلاب الثقافي«. في السياق ما بعد اليونسكو، تكمن قوة "صنع في المغرب" في قدرتها على خلق إطار ثقة صارم يضمن تجسيد المنتج لسلسلة قيمة تراثية متكاملة. إن الحكامة الثقافية المستنيرة هي التي تجعل من القفطان علامة صمود في وجه الأنتروبيا الثقافية (التحلل المعرفي)، محولةً إياه من قطعة ثوب إلى »درع هوياتي«يتسم بالتعقيد والعمق.
خاتمة: نحو سيميائية تشاركية ومواطنة ثقافية واعية
إن الجدل حول القفطان لا يشكّل تهديداً للتراث المغربي، بل دليلاً على حيويته ومركزيته في البناء الهوياتي. التحدي الحقيقي لا يكمن في إخماد هذا الجدل، بل في الارتقاء به من صراع انفعالي إلى حوار مؤطر، قائم على الوعي بالتعقيد والمسؤولية المشتركة.
غير أن السؤال يظل مفتوحاً: هل يؤدي تحويل التراث إلى نظام علامات قابل للإدارة إلى حمايته ودوامه فعلاً، أم إلى تجريده من حيويته كممارسة اجتماعية حية ومحرك للتنمية ؟
الخطر الحقيقي لا يكمن في العولمة ذاتها، بل في تجميد التراث في صورة رسمية واحدة، تُختزَل فيها تعقيدات التاريخ وتناقضات الحاضر. الرهان الحقيقي هو الانتقال من حكامة فوقية للمعنى إلى سيميائية تشاركية، لا تحتكر فيها الدولة أو النخب حق تفسير العلامات الثقافية، بل تفتح المجال للقراءات المتعددة التي تنتجها المجتمعات المحلية والحرفيون والشباب عبر وسائط جديدة. نحتاج إلى سيميائية تشاركية توسع دائرة المشاركة في الجدل حول التراث.
ولتفعيل هذه الشراكة بين الجهات المعنية، وانطلاقاً من هذا التفكيك السيميائي، لا يكتمل التحليل دون اقتراح ترجمات عملية تُحوِّل الحكامة من مفهوم نظري إلى سياسة ثقافية فاعلة. من شأنها تحسين حكامة التراث غير المادي المتجسد في الصناعة التقليدية المغربية.
محفظة مشاريع استراتيجية: نحو حكامة ثقافية نشطة وتراث صامد « Résilient »
في ظل النهضة الثقافية و إشعاعها عبر العالم، يستوجب تفعيل أدوات الحكامة السيميائية (المنخل، المصفاة، المثلث) إلى ترجمة عملية على شكل سياسات ومشاريع ملموسة يمكن إدراجها ضمن برامج الأطراف المعنية و على رأسهم الحكومة. فلا يكفي التسجيل في اليونسكو كهدف نهائي، بل يجب تحويل هذا الاعتراف إلى إطار حيوي يجعل التراث رافعة للتنمية المستدامة والتماسك الاجتماعي. فيما يلي محفظة مشاريع مقترحة لتجسيد هذه الرؤية:
مشاريع تمكين الحرفي (المصفاة في الميدان):
صناديق التوريث المهني: نظام ضمان اجتماعي وتأمين خاص بالحرفيين لضمان استقرارهم وتشجيع الشباب على تعلم الحرف.
حاضنات الإبداع التراثي: مراكز تجمع بين الورش التقليدية والمختبرات الرقمية، لدمج التصميم المعاصر مع التقنيات التراثية تحت إشراف "الحرفي-المعلم".
السياحة الثقافية التشاركية: برامج سياحية يكون الحرفي فيها محور التجربة، مع ضمان عائد عادل له.
مشاريع الوساطة الرقمية والتكوين: »المثلث السيميائي «
إدماج التربية على القراءة السيميائية في المناهج: لتكوين » المواطن السيميائي « القادر على قراءة تعقيد تراثه و المساهمة في دوامه وصونه.
المتحف الافتراضي التفاعلي للتراث المغربي: منصة رقمية ثلاثية الأبعاد، بمساعدة الذكاء الاصطناعي، تقدم شروحات سيميائية تظهر تداخل الطبقات التاريخية وتطوير المهارات.
بنك الأصول الرقمية للتراث: أرشيف مركزي عالي الجودة للباحثين والمبدعين.
جامعة افتراضية للتراث المغربي: لتقديم شهادات أكاديمية متخصصة.
مشاريع الحماية والشرعية » المنخل « التشريعي والمؤسسي :
قانون التراث الحي : يعترف قانونياً بالهجينة الثقافية كقيمة، ويحمي الحرفيين، وينظم الاستخدام التجاري للرموز.
السجل الوطني للعلامات الثقافية الترابية: خريطة تفاعلية وديناميكية توثق التراث وتحلل تداخلاته.
المرصد المغربي للاستيلاء الثقافي: آلية للرصد والرد السريع على محاولات التملك غير المشروع للرموز التراثية.
استخدام تقنيات البلوك تشين:(Blockchain) لتوثيق أصول المنتجات التراثية ومنح شهادات أصل رقمية غير قابلة للتزوير.
آليات التمويل والتنفيذ:
الصندوق الوطني للتراث الحي: تمويل مختلط (عمومي، خاص، تبرعات، نسبة من السياحة الثقافية).
حوافز ضريبية للشركات الداعمة.
شراكاتجامعية-مجتمعية لربط البحث الأكاديمي بالميدان.
وكل هذه المشاريع ليست مجرد حلول تقنية، بل هي محاولة لرقمنة«Intersigne» (العلامة البينية) وحماية التوقيع الوجودي للصانع المغربي.
وبتبني رؤية سيميائية تحتفي بالتراكب، وتسخير أدوات حكامة فاعلة (المنخل، المصفاة، المثلث)، وترجمتها إلى حافظة مشاريع إستراتيجية كما سبق، يمكن التحول من الجدال الهوياتي الانفعالي إلى حوار بناء، ومنردة الفعل السلبية إلى إبداع مستند إلى الأصول، ومنالمسؤولية المؤسساتية إلى مسؤولية مجتمعية مشتركة. دون تحول هذه الحكامة إلى » بيروقراطية باردة« تقتل عفوية الممارسة الشعبية وفلسفة مفهوم التمغربيت كصيغة كونية للإنسانية في مواجهة فوضى الدلالات السائدة حاليا.
عندها فقط، ينتقل القفطان وغيره من عناصر تراثنا من كونه ذاكرة تُحفظ إلى محرك حي للتنمية والهوية، ويَتحوّل الاعترافا لدولي إلى نقطة انطلاق لا إلى محطة وصول،ويصبح تراثنا مسرحاً سيميائياً حياً، يجسد "تعقيدنا الحي" وقدرتنا على الصمود والانفتاح في آنٍ واحد.



