شركة غوغل (Google) وازدواجية التمثيل لخريطة المغرب
لم تعد الخريطة مجرد أداة لدرس الجغرافيا، ولا وثيقة محايدة تعلق في الفصول المدرسية، ولا رسما هندسيا يرسمه خبراء المساحة، ويطويه ضباط الخرائط في حقائبهم. لقد خرجت الخريطة من الورق إلى الشاشات، ومن المكاتب الرسمية إلى جيوب الناس، ومن يد الدولة إلى يد الشركات الرقمية الكبرى. ومع هذا الانتقال تبدل كل شيء، لأن من يرسم الخريطة لا يرسم الأرض فقط، بل يرسم الوعي الذي يرى به الناس الأرض، ويحدد الصورة التي تحيط بالسيادة، وتؤسس لما يمكن أن يكون حقيقة في الذاكرة الجماعية.
وفي قلب هذا التحول تقف شركة غوغل، بثقلها التقني الذي يتجاوز ثقل دول كثيرة، وبنفوذها الذي يتسلل إلى العقول من دون إعلان، وبسلطتها التي لا تستمدها من شرعية انتخابية، بل من ملايين العيون التي تنظر إلى خرائطها كل يوم. من حيث لا تعلن، أصبحت غوغل قوة ترسم حدود العالم على الشاشة الصغيرة، وتعيد صياغة الجغرافيا على مقاس الخوارزميات، لا على مقاس التاريخ. وهذا التحول ليس عاديا، ولا يمكن التعامل معه بوصفه مجرد اختلاف في البرمجة، لأنه يمس صلب مسألة السيادة، ويقترب من جوهر الشرعية.
وحين نتأمل خريطة المغرب في خرائط غوغل، نكتشف أننا أمام ازدواجية غير بريئة، ازدواجية في العرض لا في الحقيقة. فالمستخدم المغربي يرى الصحراء جزءا من وطنه كما هي، أرضا ممتدة بلا خطوط مقطوعة ولا مناطق رمادية. أما المستخدم في الخارج، فيرى خطا منقطا يشطر الخريطة، ويحول ما هو ثابت في التاريخ إلى سؤال مفتوح في الشاشة. وكأن سيادة المغرب على صحرائه مسألة تختلف باختلاف الموقع الجغرافي لمن يستعمل التطبيق، أو كأن الحقيقة الجغرافية تتبدل بتبدل الدولة التي ينظر منها المستخدم.
هذه الازدواجية لا تصدر عن فراغ. إنها نتاج سياسة تعتمدها غوغل منذ سنوات، تسميها سياسة المناطق المختلف عليها، وتقوم على إظهار النزاع حسب موقع المستخدم. ولكن هذه السياسة، مهما غلفت بذرائع تقنية، تبقى سياسة ملتبسة. لأنها تساوي بين ما لا يجوز أن يساوى، وتضع الملفات التاريخية في كفة واحدة مع قضايا المصالح السياسية المعاصرة. فالمغرب ليس دولة تبحث عن ترسيم حدودها، ولا دولة ترسم خريطتها استنادا إلى قرار دولي، ولا كيانا خرج من استعمار حديث يبحث عن تثبيت أركانه. المغرب دولة سبقت الخرائط الحديثة نفسها، وسبق اسمها وجود المنصات الرقمية التي تضع اليوم حدودها على الشاشات.
إن خريطة المغرب ليست ملفا جغرافيا معلقا، بل هي نتاج تاريخ طويل، يسبق نشأة الكثير من الدول الموجودة اليوم على الخرائط الرقمية. هذه الحقيقة لا تفهمها الخوارزميات، لأنها تفكر بمنطق القواعد العامة، لا بمنطق الجذور. والخوارزمية التي تساوي بين الصحراء المغربية وبين مناطق صنعها الاستعمار ذات يوم، ثم تركها معلقة، خوارزمية لا تدرك معنى العمق التاريخي، ولا تستطيع التمييز بين سيادة راسخة وملفات طارئة.
وهذا هو جوهر المشكلة: غوغل تجعل من عرض الخريطة فعلا سياسيا، من حيث تعتقد أنها تقوم بعمل تقني. ففي اللحظة التي تعرض فيها الصحراء بخريطة للمغربي وخريطة أخرى للأجنبي، فإنها تنشئ وعيا مزدوجا، وتضع على عاتق الدولة المغربية عبئا جديدا: عبء الدفاع عن الصورة بقدر الدفاع عن الأرض. وهذا عبء لم تكن الدول تعرفه قبل اختراع الخرائط الرقمية.
إن السيادة، في معناها الأعمق، ليست قرارا سياسيا، بل هي امتداد تاريخي. ودولة مثل المغرب لا تقارن بدول ولدت بعد الحرب العالمية الثانية، ولا بمنظومات سياسية تشكلت بعد انهيار الإمبراطوريات. المغرب دولة عريقة، تمتد جذورها إلى ما قبل الخرائط الحديثة، واسمها مذكور في كتب التاريخ منذ قرون. هذا الفرق هو ما يغيب عن غوغل حين تساوي بين الملف المغربي وبين نزاعات أخرى، بعضها وليد اتفاقيات استعمارية، وبعضها الآخر لم تتفق عليه الدول حتى الآن.
إن خريطة ترسم على شاشة ليست خريطة، بل صورة عن الخريطة. وهذه الصورة قد تكون ناقصة أو مشوهة. والخطر ليس على المغرب كدولة، لأن سيادته لا تتحدد بواجهة رقمية، بل تتحدد بتاريخه ومؤسساته وشرعيته. الخطر الحقيقي يقع على العالم الذي يسمح لشركة واحدة بأن تعيد تشكيل وعيه بالحدود. فحين يرى الطفل في أوروبا خطا منقطا، ويكبر وهو يعتقد أن الصحراء ليست جزءا كاملا من المغرب، فإن غوغل لا تكون قد عرضت خريطة، بل صنعت وعيا بديلا قد يؤثر في النقاشات الدولية بعد عقود.
إن المساواة بين النزاعات هي جذر الخطأ. فالمغرب ليس كشمير، ولا لاداخ، ولا المناطق التي تتنازعها القوى الاستعمارية القديمة في شرق آسيا. هذه المناطق نتيجة صراعات سياسية وحديثة، ولا يمكن وضعها في كفة واحدة مع سيادة قامت قبل قرون. ومن الظلم التاريخي أن تعامل غوغل جميع هذه الملفات بمعيار واحد. لأن معيار التقنية ليس معيار التاريخ، ومعيار الخريطة الرقمية ليس معيار السيادة.
وقد يقال إن غوغل لا تنحاز، وإنها تعرض ما تسميه سياسة الحياد البصري. لكن الحياد الحقيقي ليس إخفاء الحقيقة، بل إظهارها كما هي. وإظهار الصحراء خطا منقطا في دولة، وخطا كاملا في أخرى، ليس حيادا، بل هو اختيار. والاختيار في عرض الخرائط ليس عملية تقنية، بل هو فعل له أثر سياسي. والخطر هنا لا يكمن في سوء النية، بل يكمن في وهم الحياد.
إن المغرب حين يرفض هذه الازدواجية، فهو لا يطلب امتيازا، ولا يطلب استثناء، بل يطلب أمرا بسيطا: احترام الحقيقة كما هي. لأن الحقيقة الجغرافية ليست قابلة للتجزئة. والدولة التي يحترمها تاريخها لا تقبل أن تعرض على الشاشة بوجهين، ولا يمكن لسيادتها أن تعلق بخط رمادي لا يعبّر عن الواقع.
ومع ذلك، فإن الدفاع عن خريطة المغرب أمام غوغل ليس دفاعا عن الأراضي، بل دفاع عن منطق الحقيقة. لأن الحقيقة حين تهتز في الخرائط الرقمية، فإنها تهتز في الوعي العالمي. والخريطة الرقمية قد تصبح، بمرور الزمن، مرجعا أكثر تأثيرا من الوثائق الرسمية. وهذا هو ما يجعل موقف المغرب واجبا، لأن الدفاع عن الوعي أعمق من الدفاع عن الجغرافيا.
غوغل، باعتبارها منصة عالمية، مطالبة اليوم بأن تراجع سياستها في عرض الخرائط. مطالبة بأن تفرق بين السيادة الراسخة وبين النزاعات السياقية. مطالبة بأن تضع معيارا جديدا للشرعية، لا أن تجعل الخريطة امتدادا لمواقف لم تحسم بعد. لأن الخريطة ليست خدمة رقمية، بل مسؤولية تمس ذاكرة الأمم.
إننا لسنا أمام خط منقط، بل أمام معركة أوسع. معركة بين المعرفة الرقمية والمعرفة التاريخية. بين الخوارزمية والذاكرة. بين الشركات التي ترسم العالم على الشاشة، والدول التي رسمته عبر الزمن. وفي هذه المعركة، لا يمكن أن تنتصر التقنية على التاريخ، لأن التاريخ لا يختصر في تطبيق، ولا في رمز رمادي.
ولهذا فإن المغرب، وهو يرى ازدواجية خريطة غوغل، يعرف أن قوته ليست في الخريطة التي تعرض، بل في الحقيقة التي تستند إلى قرون من الامتداد. يعرف أن الخطوط تمحى وترسم، لكن الشرعية لا تمحى ولا ترسم. ويعرف أن من يمتلك التاريخ لا تهزه واجهة رقمية، ومن يمتلك الأرض لا يربكه خط منقط.
إن خريطة المغرب ليست مجرد مساحة على الشاشة، بل هي ذاكرة أمة، وتاريخ دولة، وهوية شعب. وغوغل، لكي تكون عادلة، يجب أن تدرك أن الوعي أخطر من المساحة، وأن الخطوط ليست مجرد رموز هندسية، بل هي حدود معاني وأعماق. وإذا كانت التقنية تريد أن تحكم العالم، فعليها أولا أن تتعلم احترام التاريخ.
كاتب وأكاديمي مغربي



