على غرار بوعلام صنصال.. جزائريون في الخارج يطالبون الرئيس الألماني بالتدخل لإطلاق سراح الصحافي السبعيني سعد بوعقبة المتهم بـ"المساس بالرموز التاريخية للدولة"
وجّهت مجموعة من الإطارات الجزائرية في الخارج، التي تصف نفسها بـ"المنفية"، رسالة إلى الرئيس الألماني فرانك - فالتر شتاينماير، تطالبه فيها بأن تكون إنسانيته "غير انتقائية" وغير محصورة في حالة الكاتب بوعلام صنصال، لتشمل عميد الصحافيين الجزائريين السبعيني سعد بوعقبة، الذي أودع الحبس المؤقت منذ الخميس، بعد يوم واحد فقط من استدعائه على خلفية شكوى بتهمة التشهير وضعتها ابنة الرئيس الأسبق أحمد بنبلة بالتبني.
وبشكل مفاجئ، قرر وكيل الجمهورية توسيع نطاق الشكاية لتشمل التهم "المساس بالرموز التاريخية للدولة" عقب تصريحات أدلى بها الصحافي بوعقبة في برنامج تلفزيوني، أعاد فيه فتح واحد من أكثر الملفات حساسية في تاريخ الثورة الجزائرية وهي أموال جبهة التحرير الوطني المودَعة في بنوك سويسرية.
الرسالة التي توصلت بها "الصحيفة" من الإطارات الجزائرية المنفية، كُتبت بنبرة تجمع بين الغضب والأسف، وجاءت بعد ساعات فقط من اعتقال عميد الصحافيين الجزائريين سعد بوعقبة، الرجل المسن الذي تحول إلى "رمز لصراع طويل بين الكلمة الحرة وسلطة تتوسع يوما بعد آخر في تجريم الرأي" وفق توصيفهم.
واستحضر موقعوا الرسالة قضية صنصال التي لعب فيها شتاينماير دورا رئيسيا في الضغط الدولي الذي أدى إلى إطلاق سراحه، مشددين على أن قضية بوعقبة الذي اقتيد إلى السجن وهو في حالة صحية سيئة، تطرح أسئلة مريرة حول معنى الإنسانية عندما تصبح انتقائية، ومدى صمت أوروبا عندما يتعلق الأمر بمصير عشرات المعتقلين المجهولين داخل الجزائر.
الرسالة، ذكرت الرئيس الألماني بأن تدخله في ملف بوعلام صنصال كان خطوة تستحق التقدير، كما شددت على أن "الإنسانية الحقيقية لا تحمل اسما واحدا ولا تنتهي عند حدود رجل واحد مهما كانت قيمته الرمزية"، وأنها لا يمكن أن تُختصر في ضوء مسلط على كاتب واحد بينما "العشرات يُسجنون بسبب كلمة أو رأي أو تعليق على فيسبوك، أو مجرد جملة كتبوا فيها لست راضيا".
مفردات الرسالة بدت وكأنها خلاصة موجعة لسنوات طويلة من التضييق على الحريات، وهي لا تتردد في الإشارة بأصابع الاتهام مباشرة إلى السلطة الجزائرية واصفة إياها بأنها "السلطة التي تتاجر بسجل محاربة الإرهاب، وهي نفسها المتهمة من مالي بدعم الإرهاب والتي تتابعها فرنسا في محكمة الجرائم الإرهابية بسبب عملية اختطاف معارض بأسلوب مافيوي، وهي ذات السلطة التي أثبتت قناة فرنسية ضلوعها في تفجير مترو باريس في التسعينيات".
وفي خلفية هذه الرسالة تتردد بوضوح صدمة اعتقال سعد بوعقبة، وهو حدث ما زالت أصداؤه تتفاعل في الأوساط الحقوقية والصحافية، فبوعقبة، الذي سبق لـ''الصحيفة'' أن نشرت معطيات حول وضعه الصحي ومنعه من الكتابة والسفر، وجد نفسه فجأة داخل زنزانة بلا هاتف بلا وثائق، بلا حقوق، لا لشيء سوى أنه أشار إلى معلومات سبق نشرها قبل ثلاثين عاما.
الرجل الذي عاش نصف قرن على خطوط التماس مع السلطة، والذي ظلّ شاهدا على كل التحولات والانكسارات التي عرفها المشهد الجزائري بات يردد اليوم جملة واحدة تثير القشعريرة "أريد أن أموت" وهذا التفصيل الذي تذكره الرسالة بوضوح تجاوز مجرد حالة نفسية شخصية إلى انعكاس لواقع دولة تُعامل الصحافي المسن كخطر وجودي وتحرم رجلا في على عتبة الثمانين من السفر رغم حاجته الماسة لعملية جراحية في فرنسا، في حين يسافر كبار المسؤولين للعلاج في أوروبا نفسها "بلا قيود ولا تأخير".
المرسِلون الذين رفضوا كشف أسمائهم خوفا من الانتقام، وصفوا الجزائر الحالية بكلمات قاسية، إذ أوردوا "الشعب الجزائري مرعوب من النطق بكلمة من مجرد الظهور في قناة من زيارة الجزائر حتى، من الإدلاء برأي، من نشر تعليق على فيسبوك، والكل ينتظر لحظة مداهمة البيت".
الخوف، كما تصفه الرسالة، لم يعد حالة فردية بل صار حالة جماعية تعيد إلى الأذهان سنوات التسعينيات، حين كان مجرد الاشتباه كافيا لسجن أو إخفاء أي شخص والرسالة تذهب أبعد من ذلك حين تشير إلى أن "حتى مزدوجي الجنسية، حتى المحامين، حتى الجنرالات المتقاعدين…" يعيشون تحت الرقابة، ويخضعون لمنظومة ترهيب تجعل الجميع في دائرة الشك.
في مقابل هذا المشهد القاتم، تستحضر الرسالة المفارقة الكبرى، وهي أن الجزائر التي تمنع صحافيا كبيرا ومريضا من السفر للعلاج، تسمح لمسؤوليها وكبار جنرالاتها بالعلاج في مستشفيات أوروبا، ومنها ألمانيا، وتتهم السلطات الأوروبية بأنها من حيث لا تشعر تشارك في "تقوية نظام غير عادل" حين توفر علاجا لكبار المسؤولين بينما يعاني المواطن الجزائري الأمرّين للوصول إلى مستشفى ويقطع مئات الكيلومترات من أجل جلسة علاج كيميائي "من دون سيارة إسعاف، ومن دون دواء".
وأكدت الرسالة أن مضمونها ليس مجرد نداء إنساني وإنما إعلان عن أزمة سياسية عميقة في قولها بوضوح إن "الإنسانية ليست فعلا رمزيا لرجل واحد، بل التزاما أخلاقيا تجاه شعب كام" وإن أوروبا، إن كانت صادقة في دفاعها عن حقوق الإنسان، مطالبة بأن تدرك أن تجريم الرأي في الجزائر لم يعد حالات منفردة بل نمط حكم، وأن إطلاق سراح صنصال، مهما كانت أهميته، لم يغير شيئا في المنطق العام الذي يعتقل بموجبه الصحافيون والمدافعون عن الكلمة.
الرسالة أيضا ليست معزولة عن سياق سياسي أكبر، فاعتقال بوعقبة، كما أشارت "الصحيفة" في تقرير سابق، لم يكن مباغتا، بل جاء بعد سلسلة طويلة من الضغوط، من بينها منعه من الكتابة منذ 2023 ثم حرمانه من جواز سفره، وتضييق غير معلن شمل حتى تواصله المهني، والرجل الذي كان يُنظر إليه كصوت نقدي عميق داخل الصحافة الجزائرية صار مستهدفا بشكل منهجي، في لحظة تكشف هشاشة العلاقة بين النظام الجزائري والصحافة المستقلة، وفي سياق يتسع فيه خطاب التخوين، ويضيق فيه هامش النقد، وتتزايد فيه الاعتقالات بسبب آراء شخصية أو منشورات قصيرة على شبكات التواصل.
ولعل ما يعطي للرسالة وقعا خاصا هو أنها تأتي من داخل الجالية الجزائرية "المنفية"، التي صارت خلال السنوات الأخيرة واحدة من أكثر الأصوات علوا في كشف الانتهاكات التي تطال حرية التعبير داخل البلاد، وهؤلاء المرسلون، الذين يصفون أنفسهم بأنهم "جزائريون خائفون من كشف أسمائهم" يجسدون معضلة جيل كامل وجد نفسه مُجبرا على مغادرة البلاد ثم عاجزا عن العودة إليها، ومهددا حتى لمجرد التعبير عن رأيه من بعيد.
وتكشف الرسالة أن ملف بوعلام صنصال الذي تدخل فيه الرئيس الألماني بقوة وأدى إلى إطلاق سراح الكاتب لا يمكن أن يكون نهاية التضامن الأوروبي مع حرية التعبير في الجزائر، بل بدايته وهي تدعو شتاينماير صراحة إلى "المطالبة بتحرير القضاء والصحافة والكلمة"، وإلى توسيع الضغط ليشمل كل من يقبع خلف القضبان بسبب رأي أو كلمة أو دفاع عن العدالة، موردة أنه "لا معنى لإنسانية تُمنح لصوت واحد، بينما تُحجب عن أصوات أخرى لا يقلّ أصحابها ألما ولا معاناتهم قسوة".




