في ظل حكومة يرأسها أحد أهم رجال الأعمال في المملكة.. الاستثمارات الأجنبية في المغرب تسجل أسوأ تراجع منذ 19 سنة
سجل تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المغرب تراجعا حادا، هو الأسوأ من نوعه منذ 19 سنة، لم تُخطئه ذبذبات مقياس الفاعلين الدوليين المتخصصين في رصد دينامية الاقتصاد المغربي، وفي مقدمتهم تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد"، الذي تضع مُعطياته الحكومة التي يرأسها أحد أكبر رجال الأعمال بالمملكة في قفص المساءلة، بعدما نبّه إلى تأثير هذا الانخفاض الذي بلغ مستواه أكثر من النصف على الاستثمارات الأجنبية الجاذبة لرؤوس الأموال، والتي تُراهن عليها الدولة في اتجاه تقوية مكانة المغرب وجعله في صدارة الوجهات الاستثمارية العالمية.
ورغم اعتماد الحكومة لخارطة طريق استراتيجية جديدة لتطوير مناخ الأعمال للفترة 2023 – 2026، فإنها لم تتمكن من البدء في تفعيلها بشكل جيد، بحسب ما أظهرته منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد" في تقريرها السنوي، الذي أكد أن قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المغرب تراجعت لتبلغ أدنى مستوى لها منذ 19 عاماً، حيث سجلت خلال العام الماضي 2023 صافي استثمار أجنبي بقيمة 1.09 مليار دولار فقط، وهو ما يعني سقوطا إلى الهاوية بمقدار تجاوز النصف في غضون سنة واحدة فقط إذا ما قورن بمعطيات العام الذي سبقه (2022)، التي بلغت فيها الاستثمارات الأجنبية حوالي 2.26 مليار دولار.
ويُظهر الرسم البياني المرفق لتقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الكائن مقره في جنيف، تذبذبا لافتا في مستوى الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المغرب خلال العقدين الأخيرين، إذ بلغت هذه الاستثمارات ذروتها في عامي 2014 و2018، بحوالي 3561 مليون دولار، و3559 مليون دولار على التوالي، خلال حكومتي الإسلاميين التي قادها حزب العدالة والتنمية، فيما تراجعت إلى أدنى مستوياتها في عامي 2004 لتبلغ 895 مليون دولار، وأخيرا 2023 التي يقودها رجل الأعمال عزيز أخنوش، لتصل إلى 1095 مليون دولار، على الرغم من الوعود الوردية التي تبنتها حكومة الكفاءات بتمكنها من جذب مجموعة من المشاريع الاستثمارية ذات الطابع الاستراتيجي.
وفي المقابل، شهدت الاستثمارات المغربية المباشرة في الخارج ارتفاعاً بنحو 30% في العام الماضي لتصل إلى 836 مليون دولار، وهو أعلى رقم محقق منذ 2020، وفق تقرير منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد"، الذي عزا هذه المعطيات إلى ما يتكبده الاقتصاد العالمي من تباطؤ ملحوظ تسبب في انخفاض الطلب على الصادرات المغربية، مما أثر سلبًا على جاذبية المغرب للاستثمار الأجنبي، فضلا عن التوترات الجيوسياسية في المنطقة، وتداعيات الحرب في أوكرانيا والجفاف وتأثيراته السلبية على الاقتصاد المغربي بشكل عام.
وعلى الرغم من الإمكانات الهائلة التي يحوزها الاقتصاد المغربي في مختلف القطاعات من قبيل الصيد البحري والزراعة والطاقات المتجددة وغيرها، إلا أن الحكومة التي يقودها واحد من أكبر رجال الأعمال وتضم في هياكلها ثلة من رجالات المال والسلطة، لم تتمكن من تحقيق طفرة نوعية في هذا المجال، وتدبير واقع سوء انتظام وتيرة تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ما يفسر من جانب آخر أسباب تلقي المغرب لحصة هزيلة من تدفقات هذا الاستثمار مقارنة بدول أخرى شبيهة، مثل مصر التي تمكنت في عام 2023 من جذب أزيد من 11 مليار دولار، وجنوب إفريقيا 9 مليارات دولار، وإثيوبيا 3.7 مليارات دولار، والسنغال 2.6 مليارات دولار، بينما اكتفى المغرب بجذب 1.1 مليار دولار.
ويرى منير الغزوي، المحلل الاقتصادي وعضو الشبكة المغربية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني، أن معطيات التقرير السنوي لـ "أونكتاد"، تفضح بشكل واضح ما وصفه بـ"فشل" الحكومة في التسويق الفعّال للمملكة كوجهة استثمارية تمتاز بجاذبية محفزة، على الرغم من كل الموارد التي عبأتها خلال ولايتها.
الغزوي، وفي تصريح لـ "الصحيفة"، قال إن الحكومة الحالية عملت بالفعل على تعبئة استثمارات نوعية خلال ولايتها، ترتبط أساسا بالصناعات الاستراتيجية المرتبطة بصناعة الأدوية وصناعة الطيران وصناعة السيارات والبطاريات الكهربائية وغيرها، غير أن حجم الاستثمارات الأجنبية التي تم تعبئتها كما يبين التقرير السنوي المتعلق بالاستثمار العالمي لسنة 2023 الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد"، يبقى دون الأرقام التي تم تحقيقها قبل سنة 2020، حيث يشير التقرير إلى أنها انخفضت بنحو النصف.
وهذا الانخفاض في تعبئة الاستثمارات الأجنبية، الذي يعتبر نتيجة عكسية للدعم الذي جاء به الميثاق الجديد للاستثمار، يبرز، وفق الخبير الاقتصادي، مدى فشل الحكومة في الترويج والتفاوض الواجب نهجه مع المستثمرين الأجانب بهدف تحسين حجم هذه الاستثمارات في المملكة، والترويج أكثر للمغرب كوجهة استثمارية بها آليات تحفيز أكثر للاستثمار الأجنبي. كما تبين المعطيات السالفة الذكر بشكل واضح فشل الحكومة في التسويق الفعال للمملكة كوجهة استثمارية تمتاز بجاذبية محفزة.
وفي مارس 2023، دخل ميثاق الاستثمار الجديد حيز التنفيذ، وساهم في جذب مشاريع استثمارية بقيمة 150 مليار درهم بعد مرور سنة على اعتماده، بما يدعم تحقيق هدفه الرئيسي المتمثل في رفع حصة الاستثمار الخاص من الثلث حالياً إلى الثلثين بحلول 2035، وذلك اعتمادا على مجموعة من الإجراءات في مقدمتها توفير منح مالية قد تصل إلى 30% من المبلغ الإجمالي للاستثمار في حال توفرت فيه شروط معينة، من بينها خلق فرص أكبر للعمل وخاصة للنساء، والاستثمار في قطاعات ذات قيمة مضافة، وخارج المدن الكبيرة، في حين كانت في السابق أنظمة دعم متفرقة لا يتجاوز الحد الأقصى للدعم المالي المنصوص عليه في بعضها 10%.
وهذا يعني أن جميع الشروط كانت مواتية طيلة السنة الماضية أمام الحكومة لاستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية وتشجيعها على الاستثمار في بلدنا، بيد أن عكس ذلك هو ما حدث، إذ انخفضت تدفقات الاستثمارات الخارجية المباشرة نحو المغرب بشكل حاد في 2023 بنسبة 53.3% مقارنة مع نفس الفترة من العام السابق 2022. كما تقلصت التدفقات الصافية للاستثمارات الأجنبية بـ 11 مليار درهم، لتستقر في حدود 10.1 مليار درهم عوض 21 مليار درهم المسجلة خلال 2022، وفق تقديرات تقرير مكتب الصرف حول المبادلات الخارجية الذي تتوفر عليه "الصحيفة"، ما يستدعي فهم الأسباب التي عجزت الحكومة عن حلحلتها.
ويفسر محمد جدري، الخبير الاقتصادي ورئيس المرصد الوطني للعمل الحكومي، هذا الهبوط السلبي الذي تعانيه تدفقات الاستثمارات الأجنبية في المغرب، بظروف دولية استثنائية بدأت في التلاشي خلال الربع الأول من 2024، مرتبطة بالأزمة الاقتصادية التي مرت بها البلاد خلال السنوات الثلاث الأخيرة، نتيجة حالة عدم اليقين والتحولات الجيوسياسية للحرب في غزة وأوكرانيا وتداعيات أزمة البحر الأحمر، موردا أن "هذه جميعها أمور باتت تؤثر على الاستثمارات ومجموعة من المستثمرين الأجانب في بلدان أخرى".
والعامل الثاني، بحسب ما أوضحه الخبير في السياسات الاقتصادية، لـ "الصحيفة"، هو الولوج إلى التمويلات البنكية الذي بات باهظا، فالمستثمر الأجنبي إذا رغب في أخذ قرض من مؤسسة بنكية دولية للاستثمار في بلد آخر سواء المغرب أو غيره، يواجه واقع أن الولوج مرتفع نظرا للموجة التضخمية في السنتين الأخيرتين، والتي جعلت مجموعة من البنوك المركزية ترفع من سعر الفائدة الرئيسي، فعلى سبيل المثال، يضيف المتحدث، "في الولايات المتحدة الأمريكية بلغ أكثر من 5%، نفس الأمر في أوروبا، وفي المغرب حوالي 3% وهذا فقط في سعر الفائدة في البنك المركزي فما بالك بسعر الفائدة في البنوك التجارية".
أما العامل الثالث، فيرجعه جدري إلى أسعار مجموعة من المواد الأولية التي تشهد ارتفاعا غير مسبوق، بدءا من المحروقات والخشب والألومنيوم والزجاج ووصولا إلى الحديد، وبالتالي فإن "أي شخص يرغب في الاستثمار سيجد أمامه هذا الوضع المتأزم للأسعار، وبالتالي لا يمكنه القيام باستثمار أو التشجيع عليه في ظرفية متسمة باللا يقين، وارتفاع أسعار المحروقات وتكلفة الولوج إلى التمويلات البنكية، بالإضافة إلى أن القدرة الشرائية للمواطنين متدهورة وبالتالي لن يجد سوقا".
وخلافا للغزوي، يعتبر جدري أن هذا الوضع المربك هو الذي جعل الاستثمارات الأجنبية السنة الماضية تتراجع بأكثر من 53%، فيما الوضع بدأ يأخذ مساره نحو الحل خلال الأربعة أشهر الأولى من العام الجاري على مستوى الاستثمارات الأجنبية إذ عرفت ارتفاعا استثنائيا لأن هذه الأسباب جميعها التي ذكرناها لم تعد حاضرة، وبتنا اليوم نتحدث عن التراجع في نسبة الفائدة الرئيسية في مجموعة من البنوك المركزية، ومعدلات تضخمية مقبولة وأيضا تحسن في القدرة الشرائية للمواطنين، وأيضا تحسن في هذه الظرفية العالمية.
وأضاف الخبير الاقتصادي "من يقول إن الاستثمارات الأجنبية في المغرب تراجعت السنة الماضية، نقول نعم تراجعت في العالم بأسره لأن الظرفية لم تكن مواتية أبداً لمجموعة من المستثمرين الأجانب لكي يستثمروا في دول أخرى، لكن في 2024 من المتوقع أن تعرف ارتفاعا استثنائيا مقارنة مع السنوات الماضية، خصوصا عقب الاتفاقات الكبيرة التي أبرمتها المملكة مع مجموعة "غوشن هايتك" فيما يتعلق بالبطاريات الكهربائية أو مجموعة المقاولات الصينية، واتفاقيات ألمانيا فيما يتعلق بالهيدروجين الأخضر، وأيضا الاستثمارات التي سيتم تمويلها من طرف الشريك الإماراتي على هامش الزيارة الأخيرة التي قام بها عاهل البلاد إلى الدولة الخليحية نهاية السنة الماضية، بالإضافة إلى مجموعة من المستثمرين".
ولفت المتحدث، إلى أن إسبانيا بدورها ستلعب دورا فاعلا في هذا الشق، سيما وأنها تؤكد استثمارها لمليارات اليوروهات خلال السنوات المقبلة، وكذلك ألمانيا وبريطانيا، حسب جدري الذي بدا متفائلا بالمستقبل، وهو يشدد على أنه وخلال السنوات المقبلة سيتمكن المغرب من استقدام مجموعة من المستثمرين الأجانب خصوصا مع تنظيم البلاد لمجموعة من المحافل والأحداث الدولية أبرزها مونديال 2030.
ويبدو أن هذه النظرة المتفائلة التي تحدث بها الخبير الاقتصادي محمد جدري، هي الأقرب إلى التحقق بحسب المعطيات الرقمية التي وفّرها مكتب الصرف لـ "الصحيفة"، والتي تفيد بتحسن واضح جدا في صافي تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المغرب منذ مطلع السنة الجارية، إذ يُقدر بحوالي 5.8 مليار درهم عند متم مارس 2024، بارتفاع نسبته 56.2% مقارنة بالفترة ذاتها من السنة الماضية.
وأفادت المعطيات ذاتها، التي تتوفر عليها "الصحيفة"، بأن إيرادات هذه الاستثمارات سجلت بذلك نموا بنسبة 23.9% إلى أزيد من 9.7 مليار درهم، بينما سجلت نفقاتها انخفاضا نسبته 5.1% إلى 3.9 مليار درهم. وفيما يتعلق بصافي تدفق الاستثمارات المغربية المباشرة بالخارج، فقد بلغ ناقص 114 مليون درهم، مشيرا إلى أن مبيعات هذه الاستثمارات ارتفعت بنسبة 33.4% إلى 4.58 مليار درهم، بينما تراجعت النفقات بنسبة 12.7% إلى 4.46 مليار درهم.
وكان رئيس الحكومة عزيز أخنوش قد أعلن في 11 يونيو الجاري عن تطور مهم على مستوى الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وصفه بأحد الانعكاسات المباشرة للإصلاحات العميقة التي عملت الحكومة على ترسيخها، "في اتجاه تقوية مكانة المغرب عالميا وجعله في صدارة الوجهات الاستثمارية العالمية".
ولفت إلى أن الحكومة تعمل، تنفيذا للتعليمات الملكية، على رسم ملامح الريادة المغربية في مجالات المستقبل، لا سيما عبر مواكبة التحول الشامل في قطاع الطاقة، وتسريع تنزيل "عرض المغرب" للهيدروجين الأخضر، من خلال تعبئة الأوعية العقارية اللازمة وتوفير البنيات التحتية العالية المستوى والخبرات التقنية والبشرية، بما يتماشى مع احتياجات المستثمرين وجعل المملكة فاعلا تنافسيا في هذا القطاع ذي الآفاق الصاعدة.
وأكد أخنوش أمام مجلس النواب، أن المغرب تمكن من جذب مجموعة من المشاريع الاستثمارية ذات الطابع الاستراتيجي، كان آخرها التوقيع على اتفاقية لإنشاء وحدة صناعية متكاملة لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية، باستثمارات إجمالية تبلغ نحو 12.8 مليار درهم، مشيرا إلى أن الوحدة ستوفر 17 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، موردا بأن موضوع التشغيل بكل أبعاده الاجتماعية والمؤسسية سيحتل مكانة الصدارة خلال ما تبقى من عمر هذه الحكومة، وأن ما تحقق في مجال إنعاش الشغل بالمغرب خلال السنتين السابقتين ساهم مرحليا في التخفيف من أزمتي كوفيد والجفاف.





تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :