قراءة في مستجدات مشروع قانون مهنة المحاماة والضوابط التأهيلية والتنظيمية
لم يأت مشروع القانون رقم 66.23 المتعلق بتنظيم مهنة المحاماة في سياق تشريعي عادي، بل أفرز منذ الكشف عن مضامينه نقاشا واسعــا داخل الاوساط القانونية والنقابية، بالنظر لما يحمله من اختيارات تشريعية تمس بنية الولوج الى المهنة، وكيفية ممارستها، وحدود التنظيم الذاتي والتعبير الجماعي داخلها.
إذ يكشف المشروع عن توجه يروم اعادة صياغة ملامح مهنة المحاماة وفق منطق يقوم على الانتقائية، والضبط المؤسساتي، وتشديد شروط الممارسة، مقارنة بما كان سائدا في الإطار القانوني السابق.
في مقدمة هذه الاختيارات، يبرز اعتماد نظام المباراة للولوج الى المهنة بدل نظام الامتحان، مقرونا بشرط سن محدد يتراوح بين اثنتين وعشرين سنة واربعين سنة كحد اقصى للترشح .. ويشكل هذا التحديد العمري تحولا نوعيا في فلسفة الولوج، اذ يؤدي عمليا الى اقصاء كل من تجاوز سن الأربعين مقارنة بما هو معمول به ي نظام التوظيف بالوظيفة العمومية وهو سن خمسة وأربعون سنة، بما يعكس رغبة تشريعية واضحة في التحكم في عدد الوافدين الجدد وضبط البنية العمرية للمهنة، مع تكريس طابع تنافسي انتقائي .. ليبقى السؤال ما هو الضابط المعياري المعتمد في تحديد السن؟
إن اخضاع عينة من نصوص مشروع قانون رقم 66.23 المتعلق بمهنة المحاماة لمختبر التحليل والمقارنة، وفق مقتضيات المنطق العقلي السليم، يفضي بشكل كاف إلى تأسيس برهان واضح يقوم على غياب التجريد التشريعي في صناعة احكامه، وهيمنة المقاربة الانتقائية في ضبط مقتضياته، بما يفقد النص وحدته المعيارية وانسجامه الداخلي.
ودعنا نوضح ذلك من خلال عينة للاختبار باعتبارها مدخل دال على هذا الخلل البنيوي، ويتعلق الأمر هنا بالبند الأول من المادة 12 يتناول قدامى القضاة دون تحديد سن معين، مما يعكس مرونة في المعايير القانونية، في حين أن المادة 13 تختص بالأساتذة الجامعيين المتخصصين في سلك القانون، حيث تم تحديد سن 55 سنة كمعيار، فضلا عن ضرورة توافر أقدمية لا تقل عن ثماني سنوات.
هكذا إذن؛ يتضح التفاوت في المعايير بين الفئتين، مما يعكس الطابع الانتقائي في النصوص القانونية، ويثير تساؤلات حول مبدأ العدالة والتكافؤ في التنظيم المهني.
ومن المستجد كذلك رفع مستوى الشهادة المطلوبة، حيث اصبح الترشح مشروطا بالحصول على شهادة الماستر أو ما يعادلها، عوض الاكتفاء بشهادة الاجازة في شعبة القانون . ولا يترتب عن النجاح في المباراة الولوج الفوري إلى الممارسة، بل يكتسب المترشح صفة طالب، ويخضع لمسار تأهيلي متعدد المراحل، يبدأ بتكوين نظري أساسي مدته سنة واحدة داخل المعهد، يعقبه تمرين مهني لمدة اربع وعشرين شهرا، منها عشرون شهرا داخل مكتب محام يعينه النقيب، وأربعة أشهر للتدريب في مؤسسة من الادارات العمومية أو اشخاص القانون العام او المقاولات العمومية، على أن يخضع المتمرن بعد ذلك لامتحان نهاية التمرين قصد الحصول على شهادة الكفاءة لمزاولة المهنة . والسؤال هنا؛ ما هي الدراسات والأبحاث العلمية التي تأسس علها هذا المسار الطويل والمعقد للغاية؟
ولا يتوقف منطق التأهيل عند هذا الحد، بل يمتد ليشمل التكوين المستمر باعتباره التزاما مهنيا دائما، حيث نص المشروع صراحة على الزامية الخضوع له، واعتبار كل اخلال به اخلالا مهنيا كما خص المشروع فئة المحامين المقبولين للترافع امام محكمة النقض بمقتضيات دقيقة، اذ تم تحديد شرط الاقدمية في خمس عشرة سنة ـ هذا الشرط لم يعرف أي تجديد بالقانون الحالي ـ، مع الزامهم بالخضوع لتكوين مستمر لا يقل عن عشرين ساعة سنويا، يتم تنظيمه بتنسيق بين المعهد ومجلس الهيئة المعنية، ضمانا لجودة المقالات والمذكرات المعروضة امام هذه المحكمة.
وعلى مستوى مزاولة المهنة، اعاد المشروع تنظيم اشكال الممارسة، فاتحا المجال امام المحامي لمزاولة مهامه بصفة فردية، او في إطار عقد مشاركة مع محام مسجل بنفس الهيئة، أو عقد شراكة مع محام مسجل بهيئة اخرى، شريطة الا يتجاوز عدد الشركاء محاميين اثنين، أو في اطار عقد مساكنة، أو شركة مدنية مهنية، أو بصفته محاميا مساعدا كما اجاز ابرام عقود تعاون مع محامين أجانب أو شركات مهنية اجنبية، مع اخضاع هذه العقود لتأشير النقيب.
وبخصوص المحامين الأجانب، قيد المشروع ممارسة المهنة بضرورة التسجيل في جداول الهيئات المغربية اذا كان البلد الأصلي مرتبطا باتفاقية مع المغرب، كما اجاز بصفة استثنائية، وبإذن من وزير العدل، لمكاتب محاماة اجنبية غير مرتبطة باتفاقية، مزاولة المهام في نطاق مشروع استثماري أو صفقة محددة، مع التسجيل بلائحة مستقلة لدى الهيئة المختصة، وانتهاء اثر الاذن بانتهاء المشروع، مع الزام النقيب بإشعار وزير العدل بذلك.
أما في إطار ضبط علاقة المحامي بموكله، نص المشروع لأول مرة على الزام المحامي بالتوفر على تكليف مكتوب يتضمن بيانات محددة وفق المادة 54 من مشروع القانون، من بينها الاسم الكامل للموكل، والاسم الكامل للمحامي، ورقم ملف القضية إن وجد، ومرحلة التقاضي، وموضوع النزاع، وكيفية اداء الاتعاب، مع الاعتراف بالاقرار القضائي المثبت بمحضر خاص كوسيلة تكليف.
أما بخصوص التعبير المهني والاحتجاج، فقد نص المشروع على منع تنظيم الوقفات الاحتجاجية ورفع الشعارات داخل فضاءات المحاكم اثناء انعقاد الجلسات، كما حظر اي اتفاق للتوقف عن تقديم المساعدة القضائية أو مقاطعة الجلسات، وهو ما شكل احد أكثر المقتضيات اثارة للجدل داخل الجسم المهني.
وفي مقابل ذلك، عزز المشروع حصانة الدفاع، حيث أوجب اشعار نقيب الهيئة في حالة اعتقال المحامي أو وضعه تحت تدابير الحراسة النظرية، وعدم الاستماع إليه اذا كان السبب مرتبطا بالمهنة إلا من طرف النيابة العامة وبحضور النقيب أو من ينتدبه، مع الزام تضمين سبب تعذر الاشعار في المحضر عند الاقتضاء.
وعلى مستوى المسطرة التأديبية، الزم المشروع النقيب باتخاذ قرار معلل في الشكايات داخل أجل شهر واحد من تاريخ التوصل بها، مع تمكين الوكيل العام للملك من المنازعة في قرار الحفظ أامام مجلس الهيئة، والزام هذا الاخير بالبت داخل اجل شهرين، إضافة إلى ذلك نص المشروع على تعيين عضو مقرر، وتمكين المحامي من الاطلاع على الملف، والاستعانة بمحام، مع امكانية الطعن في القرار التأديبي أمام غرفة المشورة بمحكمة الاستئناف، وكذلك نص المشروع على احداث بطاقة مهنية تقيد بها جميع المقررات التأديبية ومآلها.
اما تنظيميا، فقد أحدث المشروع مجلس هيئات المحامين كممثل وحيد للمهنة، مع منحه الشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي، وتحديد اختصاصاته، وضمان تمثيلية النساء، وحصر ولاية النقيب في مدة واحدة غير قابلة للتجديد، ورفع النصاب القانوني لإحداث هيئة محامين إلى خمسمائة محام على الأقل.
مستشار قانوني وباحث في العلوم القانونية



