"كان 2025" من حرارة الملاعب إلى دفء الاقتصاد.. رواجٌ يخترق الخدمات والسياحة والصناعة التقليدية، ويمنح المغرب فرصة لترسيخ قوة اقتصادية ناعمة

 "كان 2025" من حرارة الملاعب إلى دفء الاقتصاد.. رواجٌ يخترق الخدمات والسياحة والصناعة التقليدية، ويمنح المغرب فرصة لترسيخ قوة اقتصادية ناعمة
الصحيفة - خولة اجعيفري
الأربعاء 31 دجنبر 2025 - 19:00

تحوّل احتضان المغرب لنهائيات كأس أمم إفريقيا 2025 إلى أكثر من تظاهرة رياضية عابرة، فقد بدا البلد منذ الأيام الأولى للبطولة، وكأنه يدخل مرحلة اقتصادية مكثفة تتجاوز الأثر الآني للرواج التجاري نحو ما يشبه ''مختبرا حيا' لقدرة الاقتصاد الوطني على الاستيعاب وإعادة التنظيم وتحويل الحركية الرياضية إلى دينامية اقتصادية متعددة الأبعاد.

المدن المغربية، بدءا من الرباط العاصمة، طنجة، مراكش، فاس وصولا إلى أكادير، التي تحتضن جميعها المباريات، تحولت إلى فضاءات اقتصادية عالية النشاط في مختلف القطاعات بما فيها الفنادق الممتلئة، المطاعم التي تعمل بطاقتها القصوى وحركة لوجستية غير مسبوقة، ورواج في الصناعات التقليدية والحرفية التي تزخر بها مختلف مناطق المملكة وخي كلها عناصر تستعيد معها البلاد صورة اقتصاد يتحرك في اتجاه تصاعدي بعد سنوات مثقلة بآثار الجائحة والتضخم والجفاف.

القطاع الخدمي شكّل الواجهة الأكثر دينامية لهذا التحول، إذ تحوّل منذ الأيام الأولى لانطلاق المنافسات إلى محرّك اقتصادي مرئي الأثر، تتقاطع حوله المؤشرات الرقمية والملاحظات الميدانية.

المعطيات المهنية الأولية، تفيد بارتفاع متباين لكن واضح في رقم معاملات المؤسسات الفندقية يتراوح بين 30و 50 في المئة، مع تسجيل نسب أعلى في المدن التي تحتضن المباريات الكبرى والمنتخبات ذات الكتلة الجماهيرية الكبيرة.

في المقابل، حققت المطاعم والمقاهي معدلات نمو تتراوح بين 20 و45 في المئة، مستفيدة من الارتفاع القوي في الطلب على خدمات الإطعام والترفيه وتزايد مدة بقاء الزوار وانخراطهم في نمط استهلاك يومي يمتد إلى ما بعد ساعات المباريات وهذه الدينامية لم تظل محصورة داخل الثقل الفندقي التقليد  بل امتدت إلى الإيواء البديل مثل دور الضيافة والشقق المفروشة ومنصات الحجز الإلكترونية التي لعبت دورا تكميليا في امتصاص الطلب بما يعكس قدرة العرض السياحي المغربي على إعادة التكيّف بسرعة مع ذروة الطلب.

ورغم أن الرواج يبدو في ظاهره مرتبطا بالمدن المستضيفة للمباريات، فإن التأثير توزّع فعليا على نطاق جغرافي أوسع فشبكات النقل التي تربط كبريات الحواضر بمدن مجاورة ومنتجعات ساحلية وسياحية ساهمت في خلق "اقتصاد حركة" يمتد عبر عدة مناطق، وهو ما يعني توسيع قاعدة الاستفادة لتشمل مطاعم أحياء، مقاولات متوسطة، محلات خدماتية محلية، ومقاولات صغيرة ظلت لسنوات سجينة هشاشة الطلب.

 كما استفاد القطاع الخدمي من تنوع الجنسيات الوافدة وتعدد أنماط الاستهلاك، بين جمهور ينتمي لشرائح متوسطة يبحث عن الإيواء الاقتصادي، وآخر مستعد لإنفاق أكبر مقابل خدمات ذات جودة عالية، ما خلق طبقات متعددة من الرواج بدل موجة أحادية الاتجاه.

وتشير قراءة هذه المعطيات إلى أن ما يحدث لا يقتصر على ارتفاع ظرفي في الاستهلاك، بل يعكس تشكّل دورة اقتصادية أكثر توازنا تُغذيها الإقامة، والإطعام، والترفيه، والخدمات الموازية، وتعيد توزيع الطلب بشكل أفقي داخل النسيج الخدمي الوطني.

ويرى الخبير في الاقتصاد السياحي، سالم الغماري الذي تتبع عن قرب دينامية الرواج المرافق للبطولة، أن "ما يجري اليوم في قطاع الخدمات لا يختزل في ارتفاع مؤقت لرقم المعاملات بل في تشكّل دورة اقتصادية كاملة تُغذيها الإقامة، والإطعام، والتجوال الحضري، والاستهلاك الثقافي والترفيهي".

وأضاف الخبير ضمن التصريح ذاته لـ "الصحيفة" أن "المؤشرات الأولية تفيد بأننا أمام رواج متعدد الطبقات فالفنادق الكبرى استفادت من الطلب المرتفع، لكن الأثر الأهم هو دخول دور الضيافة، المطاعم المتوسطة، وخدمات القرب على خط الاستفادة، بما يعني توسيع قاعدة الربح بدل حصره في فاعلين محدودين".

وأوضح المتحدث أن "تنوع الجنسيات الوافدة وطبيعة إنفاقها خلقا نمطا جديدا للحركة الاقتصادية يمتد خارج المدن المضيفة، ويرسخ صورة قطاع خدمي قادر على استيعاب الذروة، ويمنح للاقتصاد المغربي مكسبا نوعيا يتمثل في ترميم الثقة في قدرته على التحمل، والاستجابة، وتحويل المناسبة الرياضية إلى رافعة اقتصادية حقيقية".

في السياق نفسه، اندفعت قطاعات النقل واللوجستيك إلى قلب الدورة الاقتصادية الجديدة التي أطلقتها البطولة لتتحول بدورها إلى مؤشر ملموس على اتساع نطاق الرواج فالتقديرات المهنية الأولية تفيد بارتفاع حركة الطيران بنحو 25 في المئة على الأقل خلال الأسابيع الأولى مع تسجيل ضغط ملحوظ على الرحلات القادمة من العواصم الإفريقية والأوروبية، ورفع وتيرة الرحلات الاستثنائية لتأمين تدفقات الجماهير.

وتعززت وتيرة التنقل الداخلي بدورها، سواء عبر الرحلات الجوية الداخلية التي شهدت نسبة ملء مرتفعة، أو عبر الطرق السيارة التي عرفت حركة مكثفة بين المدن المحتضنة للمباريات وتلك القريبة منها، إلى جانب توسع خدمات النقل السياحي عبر الحافلات وسيارات الأجرة السياحية.

على هذا الأساس، عزز مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، الذي يستحوذ تاريخيا على أكثر من 33,7 في المائة من الحركة الجوية الوطنية، مكانته كمحور لوجستي قارّي يستقبل جزءا كبيرا من الوافدين قبل توزيعهم على باقي المدن كما استفادت مطارات مراكش، أكادير، طنجة، والرباط من هذه الدينامية، في إطار شبكة مطارية أضحت خلال "الكان" جزءا من منظومة اقتصادية تتحرك بإيقاع الحدث.

هذا الرواج لم ينعكس فقط على شركات الطيران الكبرى، بل امتد إلى شركات النقل الصغيرة والمتوسطة التي لعبت دورا حاسما في نقل آلاف المشجعين بين الملاعب، الفنادق، نقاط الجذب السياحي، والمناطق الثقافية.

وبموازاة نقل الأشخاص، تحرّكت سلاسل قيمة كاملة مرتبطة بقطاع اللوجستيك بما فيها  شركات التموين التي تغذي خدمات الملاعب والفنادق، شركات الصيانة التقنية، مزودو الأمن الخاص، وكذا الفاعلون في الخدمات التقنية المرتبطة بتدبير الحشود والتنظيم، ما جعل قطاع النقل واللوجستيك ركيزة أساسية في تحويل "الكان" إلى منظومة اقتصادية متكاملة تتفاعل فيها الخدمات، البنية التحتية، والتنظيم، ضمن دورة واحدة متعددة المستويات.

الاقتصاد الحرفي، أحد أكثر المؤشرات حساسية لقياس نبض الطلب السياحي والثقافي وقد عرف بدوره انتعاشا لافتا خلال فترة البطولة فمن الأسواق العتيقة في مراكش وفاس، إلى فضاءات العرض في طنجة وأكادير والعيون، وصولا إلى العاصمة الرباط، برزت حركة شرائية متزايدة على المنتجات التقليدية المغربية.

الطلب، وفق مهنيين تحدثت إليهم "الصحيفة" تركز على الجلابة والقفطان، البلغة التقليدية، الزرابي اليدوية، الصناعات الجلدية، والمصوغات الفضية التي تُميّز مدنا مثل أكادير وتزنيت، إلى جانب منتجات خشبية ونحاسية أصبحت جزءا من "هوية الزيارة" لدى عدد من المشجعين الأفارقة والعرب والأوروبيين.

هذا الرواج، أعاد تنشيط حلقات إنتاجية واسعة تشمل ورشات الخياطة، وحدات الجلد، محلات النقش والصياغة التقليدية، بما يعكس عودة الثقة إلى قطاع ظل هشا لسنوات بسبب تراجع التدفقات السياحية والأزمات الاقتصادية.

وفي الرباط تحديدا، باعتبارها إحدى العواصم الأساسية المستقبلة للجماهير ومركزا تنظيميا وإداريا للبطولة، وُضِعَت فضاءات وأروقة عرض بالقرب من نقاط تجمع المشجعين والساحات الكبرى ومسارات الحركة السياحية، لتمكين الزوار من الاكتشاف المباشر للمنتوجات الحرفية المغربية.

وقد تحولت هذه الأروقة، التي اشتغلت بتنسيق بين فاعلين مؤسساتيين ومهنيين، إلى منصات تعريفية تقدّم ''السردية الثقافية'' التي تقف خلفها حِرَف متوارثة، مهارات يدوية دقيقة، ورأسمال ثقافي غير مادي يُقدَّم في قالب اقتصادي حي إذ صارت الصناعة التقليدية المغربية العريقة قوة ناعمة فاعلة حيث تُسهم الأكشاك والأروقة المنظمة في الرباط وباقي المدن في جعل الحِرفة جزءا من تجربة المشجع نفسه، ومن ذاكرة البطولة التي يغادر بها إلى بلده.

وهذه الدينامية تعطي للصناعة التقليدية قيمة تتجاوز حدود البيع المباشر فالهدايا التذكارية التي تغادر مع الجمهور الأجنبي تتحول إلى رسائل ثقافية واقتصادية طويلة الأمد، تُرسّخ صورة المغرب كبلد يمتلك هوية جمالية وإبداعية متجذرة، وتمنح ''العلامة الثقافية المغربية''، و"صنع في المغرب" امتدادا ملموسا يتجاوز زمن المنافسات الرياضية ليصبح جزءا من الرصيد الرمزي والاقتصادي للمملكة.

مقابل هذا الرواج القطاعي الواسع، برزت بوضوح أهمية وضعية المقاولات الصغيرة جدا والصغرى والمتوسطة، باعتبارها العمود الفقري للاقتصاد الوطني إذ تمثل أكثر من 90 بالمئة من النسيج المقاولاتي في المغرب وتشغّل نسبة كبيرة من اليد العاملة.

هذه الفئة التي عاشت خلال الأعوام الأخيرة تحت ضغط أزمات متلاحقة، من تداعيات "كوفيد-19" إلى موجات التضخم والجفاف وتراجع الطلب الداخلي وجدت في تنظيم "كان 2025" منفذا حقيقيا لإعادة بناء توازنها المالي والتجاري فخلال الأسابيع الأولى من البطولة، استفادت هذه المقاولات من تعزيز مباشر للطلب على خدماتها ومنتجاتها سواء في مجالات التموين، الصيانة، الدعم اللوجستي، تنظيم الفعاليات، أو الخدمات المرتبطة بالإقامة والسياحة الحضرية.

كما فتحت المناسبة آفاقا جديدة أمام مقاولات فتية في التكنولوجيا والخدمات الرقمية، لاسيما تلك التي تشتغل في حجز التذاكر، إدارة التدفقات، المحتوى الرقمي المواكب، وتنظيم الفعاليات الثقافية والفنية الموازية، بما مكّنها من اختبار نماذج أعمالها في سياق مهني حقيقي على نطاق واسع.

لكن دينامية "الكان" لا تنحصر في لحظتها الزمنية، إذ تتشكل بتدرّج، آثار هيكلية أعمق تمتد إلى المدى المتوسط والبعيد، تتمثل في تعزيز صورة المغرب كبلد يمتلك قدرة تنظيمية عالية وبنية تحتية متطورة وشبكات نقل ولوجستيك فعّالة على المستوى القاري.

وهذه العناصر تشكّل رأسمالا غير مرئي لكنه بالغ التأثير، لأنها تمنح المقاولات المغربية فرصة اختبار جودة خدماتها أمام جمهور دولي، وتراكم رصيد ثقة يمكن تحويله لاحقا إلى استثمارات، شراكات، وتوسع تجاري داخل القارة الإفريقية وخارجها فالبطولة في هذا المعنى منصة لإعادة تموقع ''العلامة التجارية المغربية'' اقتصاديا ومؤسساتيا.

ورغم هذه المكاسب الواضحة، تكشف القراءة الدقيقة للرواج عن جوانب اجتماعية واقتصادية حساسة، فارتفاع الأسعار في بعض القطاعات خاصة الفندقة والمطاعم، أظهر حدود تفاعل السوق حين يغيب ميزان دقيق بين الطلب القوي والحكامة الاقتصادية الرشيدة كما عكست بعض ردود الفعل الشعبية توترا بين مطلب الربحية المشروعة وضرورة الحفاظ على ثقة المستهلكين.

في الوقت نفسه، لم تستفد كل الفئات الاقتصادية بالدرجة نفسها فمحلات صغيرة داخل أحياء سكنية محددة سجلت تراجعا في الحركة بفعل انتقال جزء من الاستهلاك نحو فضاءات جماعية مرتبطة بالمباريات.

وتظل الإشكالات البنيوية التي طالما واجهت المقاولات الصغرى حاضرة بقوة منافسة غير متكافئة مع الشركات الكبرى التي تستحوذ غالبا على العقود الكبيرة، صعوبات مستمرة في الولوج إلى التمويل بشروط مناسبة، وتحديات مرتبطة بتأخر الأداءات في عقود المناولة، بآثار مباشرة على السيولة والاستمرارية.

 لذلك، يتحول "الكان" من مجرد فرصة اقتصادية إلى اختبار حقيقي لمدى قدرة السياسات العمومية على إدماج هذه المقاولات فعليا داخل سلاسل القيمة التي يخلقها الحدث، وعلى ابتكار آليات مواكبة وتمويل تضمن تثبيت آثار الرواج بدل تركها كطفرة ظرفية.

في هذا السياق، يرى الخبير في اقتصاد المقاولات مجيد التكناوتي أن "القيمة الاستراتيجية للبطولة لا تختزل في أرقام المداخيل المباشرة مهما كانت مهمة، بل في ما تُنتجه من ثقة مؤسساتية وتجربة تنظيمية وشبكات علاقات اقتصادية جديدة".

 ويضيف التكناوتي في التصريح الذي خص به "الصحيفة": "إذا جرى تثمين هذه الدينامية عبر سياسات ذكية لتمكين المقاولات الصغرى والمتوسطة، فإن أثر الكان قد يتجاوز الطابع الاحتفالي إلى بناء طبقة اقتصادية أكثر توازنا واستدامة، تنخرط فيها هذه المقاولات كفاعل محوري وليس كمستفيد ثانوي".

تقديرات الفاعلين الاقتصاديين تضع سقف الطموح المالي للحدث ضمن أفق يتجاوز 125 مليار درهم من المداخيل السياحية، غير أن القيمة النوعية الحقيقية تتجسد في تراكم الصورة الإيجابية ترسيخ الثقة، وتوسيع قاعدة الفاعلين القادرين على الاشتغال وفق معايير دولية.

وأعادت "كان 2025" الحرارة إلى أوصال الاقتصاد الوطني، وأطلقت حركة حيوية في الخدمات واللوجستيك والصناعة التقليدية والتكنولوجيا لكن المعنى الاستراتيجي لهذه الدينامية يظهر حين تتحول إلى مسار طويل الأمد يثبت بنية اقتصادية قادرة على تحويل اللحظات الكبرى إلى أدوات تطوير وعلى خلق رأسمال اقتصادي جديد يقوم على التنظيم، الجاذبية، والاندماج بين الاقتصاد الكلي والواقع اليومي للمقاولات الصغيرة والمتوسطة.

القفطان.. وأزمة الهوية عند الجزائريين

طُويت معركة أخرى أرادت الجزائر أن تخوضها ضد المغرب، وهذه المرة ليس في مجلس الأمن بخصوص قضية الصحراء، بل داخل أروقة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، التي تعقد ...

استطلاع رأي

مع قُرب انطلاق نهائيات كأس إفريقيا للأمم "المغرب2025".. من تتوقع أن يفوز باللقب من منتخبات شمال إفريقيا؟

Loading...