د. محمد كرواوي
الأربعاء 3 دجنبر 2025 - 13:00

كيف أسهم النظام العسكري الجزائري في إجهاض الانتقال الديمقراطي في تونس

لم تكن تونس بعد ثورة 2011 تجربة عابرة، بل كانت أقرب إلى مشروع سياسي لإعادة تعريف الدولة في العالم العربي. كانت الشرارة التي أوحت بأن المنطقة قادرة على الانفصال عن إرث الاستبداد، وأن الشعب يمكنه أخيرا أن يكون مصدر الشرعية. غير أن هذا الأمل بدأ يتلاشى، ليس فقط بسبب أعطاب داخلية، بل بفعل خيوط ضغط خارجية تنسجها الجزائر منذ سنوات، بخبرة نظام عسكري يرفض أي شكل من أشكال الديمقراطية على حدوده، ويعتبر الإصلاح السياسي تهديدا وجوديا.

هكذا تحولت تونس من فضاء ديمقراطي ناشئ إلى ساحة نفوذ جزائري مكتملة الأركان، ومعها تبخر آخر بصيص ثقة في مستقبل عربي بدولة القانون.

لقد بنى النظام الجزائري، على مدى عقود، منظومة واسعة من السيطرة السياسية تقوم على مركزة القرار في يد الجيش، مع واجهة مدنية تستبدل كلما انتهت صلاحيتها. من يراقب ملامح السلطة في الجزائر يدرك أن رئيس الجمهورية ليس سوى تفصيل صغير في لوحة يتقدمها الجنرالات.

لذلك حين ظهر بصيص حرية في تونس، كان واضحا أن الجزائر لن تترك الأمر يمر دون تدخل. تجربة الحراك الجزائري التي أُخمدت بعد 2019 تركت لدى السلطة انطباعا مرعبا: إذا نجحت تونس في التحول الديمقراطي، فإن السؤال سيتسرب إلى الشارع الجزائري عاجلا أو آجلا: لماذا لا نكون مثلهم؟

ومن هنا بدأت تونس تدفع ثمنا لم تدركه إلا متأخرا. كان النظام الجزائري ينتظر اللحظة المناسبة؛ لحظة ضعف، ارتباك، أزمة اقتصادية، انسداد سياسي. جاءت تلك اللحظة بعد 25 يوليوز 2021، حين أقدم الرئيس قيس سعيد على تفكيك مسار الانتقال الديمقراطي باسم «تصحيح المسار».

لم يكن الرجل معاديا للديمقراطية منذ البداية، لكنه لم يملك رؤية لبنائها أيضا. وعندما أدرك أن القوى الدولية لن تمنحه الدعم المالي دون إصلاحات سياسية، وجد أمامه الجزائر. لم يعرض النظام الجزائري كلمات تضامن، بل عرض ما هو أخطر: البديل عن الديمقراطية.

دخلت الجزائر إلى العمق التونسي من بوابة الاقتصاد: قروض، ودائع، إمدادات غاز، حماية دبلوماسية في لحظات العزلة. لكن الأموال ليست صدقات، والغاز ليس هبة. إنها أدوات لجر تونس إلى مدار النفوذ الجزائري. حين تحولت الكهرباء التونسية إلى رهينة أنابيب غاز جزائرية، لم يعد القرار السياسي التونسي مستقلا.

وعندما بدأت السلطة التونسية تعتمد على القروض الجزائرية لسد فجوات ميزانيتها، بات كل طلب دعم يعني توقيعا إضافيا على عقد إذعان سياسي.

غير أن المال لم يكن سوى نصف القصة. أما نصفها الآخر، فهو الرئيس قيس سعيد نفسه، الذي لم يتردد في تقديم ما يشبه الضمان السياسي للجزائر عبر مواقف دبلوماسية غير مسبوقة في تاريخ تونس الحديث. لقد برز هذا التحول بشكل فاضح حين ظهر سعيد، في مشهد إعلامي لا يقل رمزية عن البيانات العسكرية، واقفًا إلى جانب ممثل جبهة البوليساريو، وهو ما لم تجرؤ أي سلطة تونسية قبل 2021 على فعله.

لم يكن الأمر مجرد استقبال بروتوكولي، بل إعلان انحياز صريح لموقف الجزائر ضد المغرب، وهو ما أسقط ما تبقى من حياد تونسي تاريخي، ووضع الدولة التونسية رسميًا في موقع التابع.

كان ذلك اللقاء نقطة تحول. فقد أظهرت صور سعيد مبتسما إلى جانب ممثل البوليساريو أن الرئيس التونسي لم يعد يتحرك وفق قراءة تونسية للمصلحة الوطنية، بل وفق قراءة جزائرية ترى في تونس امتدادا جيوسياسيا. من الصعب تصور أن هذه الواقعة جاءت نتيجة خطأ بروتوكولي أو سوء تقدير، فالمشهد، كما قرأه المتابعون، كان رسالة بثلاث لغات: إلى الجزائر بأن تونس أصبحت «ضمن الخط»، إلى المغرب بأن الجدار الدبلوماسي يتغير، وإلى الداخل التونسي بأن السيادة لم تعد شعارا، بل قناعا يلبس عند الحاجة.

بعد ذلك، تزايد التنسيق الأمني والقضائي بين الدولتين. سلمت تونس معارضين جزائريين، وتبادلت ملفات قضائية، وبدأت لغة الاتهامات في القضاء التونسي تتحول من لغة مدنية إلى لغة أمنية تشبه ما شاع في الجزائر منذ التسعينات: الإرهاب، التآمر، تهديد الأمن القومي. لم يعد القانون في تونس أداة للتحرير، بل منصة لنسخ النموذج الأمني الجزائري الذي يحول المواطن إلى مشتبه به، والمعارضة إلى جريمة محتملة. وبذلك انتقلت تونس، من حيث لا تدري، من دولة القانون إلى دولة الاشتباه.

لقد اكتشف الرئيس قيس سعيد أن الديمقراطية تتطلب حوارا ومؤسسات وشفافية، وكلها أمور لا يطيقها نظام منفرد بالسلطة. بينما وجد في الجزائر نموذجا أكثر انسجاما مع رؤيته الفردانية: دولة يقودها رئيس فوق الأحزاب، يسنده جهاز أمني قادر على إغلاق المجال السياسي تحت ذريعة «المخاطر». ولهذا، بدل أن يواجه سعيد منظومة الاستبداد الجزائري، دخل في تواطؤ مريح معها: السلطة له، والنفوذ للجزائر، والديمقراطية إلى المقبرة.

ولأن السياسة الخارجية مرآة السيادة الحقيقية، بدا واضحا أن تونس لم تعد حرة في اختياراتها. فبعد أن كانت لاعبًا متزنا في شمال إفريقيا، أصبحت جزءا من محور لا يترك مجالا لدولة تبحث عن استقلال قرارها. ليس صدفة أن تعيش تونس اليوم عزلة دولية متنامية، مقابل انفتاحها على علاقات أحادية الاتجاه مع الجزائر. من يفقد استقلاله الدبلوماسي، يفقد بالتبعية استقلاله السياسي، ثم استقلاله الدستوري، ثم استقلاله الأخلاقي أمام شعبه.

هكذا، لم تضع الجزائر يدها على تونس بالدبابات، بل بالغاز. لم تسقط الديمقراطية التونسية بانقلاب عسكري، بل باتفاق صامت: الجزائر توفر الغطاء، وقيس سعيد يهدم المؤسسات. لقد تحولت الثورة التونسية من وعد تاريخي إلى درس مرير: الديمقراطية لا تموت دائما بطلقة، بل قد تموت بقبلة جار.

تستطيع تونس أن تستعيد طريقها، لكن ذلك لن يحدث ما لم يدرك شعبها أن الخطر لا يأتي فقط من الداخل، بل من الحدود أيضًا. وأن الدولة التي تتسول سيادتها لن تحصل عليها أبدا. أما الجزائر، فإنها قد تربح لحظة تاريخية من النفوذ، لكنها تخسر ما هو أخطر: شرعية المستقبل. فالتاريخ لا ينسى الأنظمة التي تقف ضد حرية الشعوب، ولا يعفي الرؤساء الذين يبيعون أوطانهم بدعوى السيادة.

وحين يسقط الستار الأخير، ستطرح المنطقة سؤالها القادم: من حمى تونس من أعدائها؟ ومن حماها من أصدقائها؟ والجواب، للأسف، يختصره هذا المقال: لقد سقطت تونس لا لأنها لم تكن مستعدة للديمقراطية، بل لأنها وُضعت تحت وصاية نظام لا يحتمل رؤية شعبٍ يُولد من جديد.

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة

تعليقات
جاري تحميل التعليقات

ما يجب قوله للإسبان في مدريد؟

في الوقت الذي تعقد فيه الحكومة الإسبانية ونظيرتها المغربية، اليوم الخميس، بمدريد الدورة الثالثة عشرة من الاجتماع الرفيع المستوى، مع ما يعكس ذلك من تطور كبير في العلاقات الثنائية بين ...

استطلاع رأي

مع قُرب انطلاق نهائيات كأس إفريقيا للأمم "المغرب2025".. من تتوقع أن يفوز باللقب من منتخبات شمال إفريقيا؟

Loading...