"لم نرَ أي إنقاذ في البداية".. أهالي آسفي يروون لـ "الصحيفة" تفاصيل "الليلة السوداء".. شباب ينقذون الناس بأيديهم ومدينة تُحاسِب صمتها بعد السيول
في دقائق قليلة فقط، انقلب مساء آسفي أمس الأحد إلى فاجعة جماعية، بعدما تحوّلت الأمطار الفجائية إلى سيول جارفة اخترقت الأحياء والأسواق وجرفت معها أرواحًا ومحلات وذاكرة مدينة كاملة.
وبين صرخات الاستغاثة، ومياه ارتفعت بلا إنذار وشباب خاطروا بحياتهم لإنقاذ العالقين، تكشّف مشهد كارثي يفضح هشاشة مدينة واجهت المطر بضعف التجهيزات وغياب التدخل السريع، قبل أن يدخل القضاء على الخط لفتح بحث في أسباب مأساة خلّفت عشرات الضحايا وحوّلت آسفي إلى مدينة منكوبة.
وتحوّلت مدينة آسفي في الساعات القليلة الماضية، إلى فضاء مفتوح على الفاجعة، فلم تكن السيول التي اجتاحت الأحياء مجرد مياه متدفقة، بل قوة عمياء أعادت ترتيب المكان والناس والوقت وخلّفت وراءها مدينة مذهولة، ووجوهًا مصدومة، وأسئلة لا تجد بعدُ من يجيب عنها.
في أزقة المدينة القديمة، التي اعتادت ضجيج التجارة وروتين اليومي، حلّ صمت ثقيل لا يقطعه سوى وقع الأقدام فوق الوحل، ورائحة ماء آسن تختلط بالخوف والحزن.
ومنذ اللحظات الأولى، أدرك السكان أن ما يحدث ليس مطرًا عاديًا فـ "الأمر كان مرعبًا، خلال دقائق ارتفع منسوب المياه بشكل لم نشهده من قبل" يقول محمد وهو تاجر خمسيني لـ"الصحيفة".
وأضاف التاجر في محل للذهب خلال حديثه لـ "الصحيفة": "كنا داخل المحلات، وفجأة أصبح الماء فوق الركب، ثم فوق الخصر… لم نعد نرى الطريق ولا نعرف إلى أين نهرب.. خسرنا بضاعتنا وكل شيء" شهادته تتقاطع مع روايات مواطنين آخرين أكدوا أن السيول باغتت الجميع دون سابق إنذار، وحوّلت الشوارع إلى مصائد حقيقية.
في خضم هذا المشهد، سقط ضحايا كُثر فمواطنون تحدثوا لـ"الصحيفة" عن "أناس لقيوا حتفهم أمام أعينهم" فيما ظل آخرون في عداد المفقودين لساعات طويلة.
من بين الأسماء التي ترددت على ألسنة السكان، فتاة في السابعة عشرة من عمرها، إلى جانب تجار وأصحاب محلات وعاملين في مقاه كانوا في مواقعهم لحظة اجتياح السيول "كانوا يحاولون إغلاق المحلات أو إنقاذ بعض السلع، لكن الماء كان أسرع" يقول عبد الرزاق وهو عيان في حديث لـ "الصحيفة" مضيفًا أن "الجميع كان يصرخ، لكن لا أحد كان قادرًا على فعل شيء".
الشهود أكدوا أن عددًا من الضحايا جرفتهم السيول في اتجاه منطقة المرسى، حيث اشتدّ الجريان وتحولت المياه إلى تيار لا يرحم، صاحب محل للذهب، وعاملون في مقاه مجاورة، كانوا من بين من اختفوا في تلك اللحظات.
أحد الشباب الذين تجندوا مع فرق الإنقاذ تابع المشهد من مسافة قريبة وقال لـ"الصحيفة": "رأيت أشخاصًا تُسحب أجسادهم مع الماء، حاولنا الاقتراب لكن التيار كان قويًا جدًا كان عجزًا جماعيًا، لا يمكن وصفه".
في تلك الساعات الحاسمة، برز غياب التدخل الرسمي الفوري كأحد أكثر النقاط إثارة لغضب السكان "في البداية لم نرَ أي تجهيزات ولا سيارات إنقاذ" يقول الشاب موضحا: "الذين تحركوا هم شباب المدينة، دخلوا الماء بلا حبال ولا سترات، فقط بدافع إنساني".
هؤلاء الشباب، الذين وصفهم السكان بـ"الأبطال" خاطروا بحياتهم وسط الأمواج المتصاعدة، وتمكنوا من إنقاذ عدد من الأشخاص الذين كانوا عالقين أو متشبثين بالجدران والحديد" سحبنا رجلًا كان قد فقد وعيه، ولو تأخرنا دقائق لكان من الضحايا" يروي أحد المشاركين في عمليات الإنقاذ.
لكن، كما يضيف متحدثون لـ"الصحيفة" لم يُكتب للجميع النجاة، "أنقذنا من استطعنا، لكن بعضهم اختفى أمامنا" يقول شاب آخر، بصوت تختلط فيه المرارة بالفخر وهذا التناقض بين البطولة الفردية والعجز الجماعي ظل حاضرًا في كل الشهادات التي استقتها "الصحيفة" هاتفيا، باعتباره صورة مكثفة لما عاشته المدينة تلك الليلة.
ومع انحسار المياه، يؤكد هؤلاء أنه بدأت ملامح الكارثة تتضح أكثر، الأوحال غطّت الأزقة، والنفايات انسدت بها مجاري الصرف الصحي، والمحلات تحولت إلى مساحات خراب فيما مواطنون وجّهوا انتقادات حادة لما وصفوه بضعف التجهيزات وسوء تدبير النفايات.
"القنوات كانت مسدودة بالأزبال منذ مدة، وقلنا مرارًا إن هذا خطر" يقول أحد السكان لـ"الصحيفة" مضيفًا أن "السيول لم تصنع المشكلة من الصفر، بل كشفت ما كان مهملًا" بعد ذلك، اضطر السكان إلى تنظيف الشوارع والمنازل بأيديهم، في غياب وسائل كافية، وكأن المدينة تُركت لتداوي جراحها بنفسها.
الخسائر المادية كانت بدورها قاسية، فمحلات تجارية عدة فقدت كل محتوياتها، منازل غمرتها المياه، وأسر وجدت نفسها دون مأوى أو مصدر رزق.
"هذا المحل هو حياتي كلها" يقول تاجر متضرر في المدينة القديمة لـ "الصحيفة"، ويضيف "في ليلة واحدة، ضاع كل شيء" آخرون تحدثوا عن تشريد عائلات كاملة، وعن أطفال باتوا دون كتب أو ملابس، في مشهد إنساني ثقيل الوطأة.
وإلى حدود اللحظة، تتواصل عمليات البحث عن المفقودين، بمشاركة فرق الإنقاذ والمواطنين، وسط أجواء يطغى عليها الحزن والترقب فيما وفي الأحياء المتضررة، تتردّد دعوات بالرحمة للضحايا، وبالكشف عن الحقيقة كاملة، وبألا تمر هذه المأساة كما مرّت سابقاتها.
في هذا السياق، أعلن الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بآسفي أن النيابة العامة فتحت بحثًا في موضوع فيضانات آسفي، عهدت به إلى الشرطة القضائية، من أجل الوقوف على الأسباب الحقيقية لهذا الحادث الأليم والكشف عن ظروفه وملابساته وهي خطوة اعتبرها عدد من السكان "ضرورية ومتأخرة في آن واحد" أحد المتضررين قال لـ"الصحيفة": "نريد أن نعرف لماذا مات الناس، ليس فقط أن نتعاطف معهم نريد محاسبة حقيقية حتى لا يتكرر ما حدث".
وبين مشهد السيول وبطولة الشباب وغضب السكان، ودخول القضاء على الخط، تقف آسفي اليوم كمدينة منكوبة، لا تبحث فقط عن جبر الضرر، بل عن إجابة صريحة لسؤال بات يؤرق الجميع هل كانت هذه الفاجعة حتمية، أم نتيجة تراكم سنوات من الإهمال؟ في انتظار ما ستسفر عنه التحقيقات، يبقى المؤكد أن ما حدث لن يُمحى بسهولة من ذاكرة مدينة اكتشفت، في ليلة واحدة، هشاشتها أمام الماء وقوة التضامن بين أبنائها وثقل الأسئلة التي لا تقبل بعد الآن التأجيل.




