مراكش.. "أرض الله" التي بدأت في خلع أحزان زلزال الحوز بدفء زائريها من السياح واستعدادها لاحتضان أكبر قمّة يعقدها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي
بعد أيام معدودات على فاجعة الزلزال المدمّر، عادت مُراكش لتنهض من جديد وتُلملم جراحها وأحزانها بإرادة وعزيمة لا تُضاهيها سوى القدرة المتأصلة في ثقافة المغاربة تاريخيا على تحويل المحن لفُرص، وإصرارهم على النهوض من تحت ركام الآلام ليكونوا في أحسن حلّة وهم يستقبلون ضيوفهم بابتسامة عريضة وترحاب وكرم منقطع النظير.. وما مراكش، أرض الله التي أخذت من معاني اسمها الشيء الكثير سوى مرادف للإيثار المغربي.
هنا ساحة جامع الفنا، قلب عاصمة النخيل، وأول ما يخطر على بال المارق وهو يُحاول جسّ حقيقة عودة النبض للمدينة المكلومة التي ضربها الزلزال الأعنف من نوعه في تاريخ البلاد، والذي راح ضحيته 3000 مواطن، والعشرات من الأضرار المادية الجسيمة كان لمُراكش فيها حصة الأسد، قبل أن تستجمع نفسها من تحت ثوب الحداد وتُباشر الاستعدادات لاحتضان ضيوفها القادمين من 189 دولة لحضور قمة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المرتقبة خلال الفترة الممتدة من التاسع إلى الخامس عشر من شهر أكتوبر الجاري.
نحن مدينة البهجة والفرح.. أما الأحزان ففي القلب
تبدو الحياة طبيعية جدا، على طول شارع باب "أكناو" الذي يسمى أيضا شارع مولاي رشيد أو كما يحلو للمراكشيين تسميته "البرانس"، حتى يكاد يُخيل للواحد منا أن وقائع الزلزال العنيف لم تحدث حقا، فالشارع وكعادته يضج ليل نهار بالباعة، والمارة من المواطنين، والسياح من مختلف الأجناس، وبين رائحة الطواجين والطنجية المطبوخة على نار هادئة المنبعثة من المطاعم على طول الشارع والتي تسرقك حتى من نفسك، وبين الأنغام الموسيقية التي تختلط بين الأمازيغية والعربية، تتشابك حواسك ويسأل منطق الأمور، "هل حدث الزلزال فعلا؟"، وهو سؤال مشروع طرحته "الصحيفة"، على أحد أصحاب مطاعم المأكولات الشعبية في "البرانس"، ليقول مجيبا بلكنة مراكشية واثقة: "هادو هوما المغاربة، مكيطولوش فالحزن بزاف وكيجمعو الوقفة"، وهذه الجملة وضوحها يشفع لها ويجعل من الإجحاف ترجمتها للفُصحى.

يقول الحاج احمد، الرجل الستيني وأحد أصحاب مطاعم الأكلات الشعبية في "البرانس"، وهو يُضايف "الصحيفة" على كأس شاي كما تستدعي ذلك أصول الكرم المغربي: "لقد حزنّا كثيرا، فقدت ابنتي وزوجها في ثلاث نيعقوب في الجمعة الأسود، وقد كانا في زيارة فقط لخالة زوجها، لكن شاءت الأقدار أن يرحلا بدون وداع، تألمت كثيرا وأقمنا حدادا أسريا ووطنيا كبيرا، على أية حال الجميع حزين على موتانا فالواحد منا إذا لم يكن قد فقد أحبته فقد تضرر ماديا أو معنويا" مضيفا بتنهيدة لا تخلو من الأسى:" لكن الحزن في القلب ولسنا في حاجة لإظهاره للعالم، سنبقى حزينين ومع ذلك سننهض كل صباح ونفتح محلاتنا لنسترزق، سنشغل القرآن لنستفتح ثم الموسيقى لنستقبل ضيوفنا بابتسامة كبيرة.. هؤلاء السياح ليس لهم أي ذنب في أن نستقبلهم بوجه بئيس".
يتّفق عبد اللطيف، الذي يبيع الملابس التقليدية في "البرانس"، كثيرا مع ما قاله الحاج أحمد، بل ويضيف: "مراكش مدينة البهجة، وكثيرة هي المشاكل والنكبات والمآسي التي جابهتها بإرادة وعزيمة كبيرة وتجاوزتها والمؤكد ستأتي فواجع أخرى هذا حال الدنيا"، مضيفا: "شخصيا تضرر بيتي في حي الملاح، لكن ما أزال حيّا وهذا الأهم، فنحن المغاربة نحب الحياة، وحتى في حدادنا نقول إن الراحلين شهداء عند ربّهم وفداء له وهم في مكان أفضل" .
وبحسب الشاب الأربعيني عبد اللطيف، فإن مراكش مدينة لا يليق بها الحزن، وساكنتها لا يُتقنون سوى عبارات الفرح والضيافة والكرم كحال المغاربة: "ما يجعل أنه من الصعب ألا ننهض من جديد، ولا بد من أن كل الاجراءات التي قام بها الملك محمد السادس، طبطبت علينا وشجّعتنا على تجاوز الأحزان والعودة إلى حياتنا الطبيعية بكل حب وبدروس جديدة.. أنظري السياح بيننا، وكل هؤلاء وثقوا في المغرب وأمنه وأمانه، لم يتغير شيء، والزلزال لم يتمكّن من ردم فرحتنا، هي أيام فقط وسيمضي كل شيء وسيُنسى وكأنه لم يكن، أما الراحلون فذكرياتهم في قلوبنا وحزنهم نحمله معنا لكن لن نفرضه على ضيوفنا.. ومرحبا في مراكش"..
الزلزال لم يهُز ثقة السياح
"مرحبا بك في مراكش"، هي عبارة تكررت كثيرا على مسامع "الصحيفة" طيلة جولتها في الشوارع وأزقة المدينة القديمة وفي ساحة جامع الفنا، وبكل اللغات التي يُتقنها المراكشيون دون دراسة أو تكوين في أفخم المعاهد، عبارة نابعة من قلوب تُحب الضيوف، ومدينة اصطفاها الخالق باسم "أرض الله"، فهي "أرض الله" وأرض عباده على اختلاف أعراقهم، وألوانهم ودياناتهم وهي مدينة الجميع، "مدينة الألوان، والفرح وتامغريبيت" كما تصفها سناء وهي سائحة مغربية، اختارت القدم إلى مراكش لإمضاء عطلة عيد المولد النبوي مع أسرتها الصغيرة، ولتقول لأسرتها والجميع "نحن في أمان، ومراكش مستمرة في تقديم الخدمات السياحية بنفس الجودة المتميزة التي بوأتها لتكون على رأس أفضل الوجهات العالمية".
يكاد الواحد منا، لا يستوعب أن هزة أرضية ضربت هذا المكان قبل أسابيع، فمظاهر الفرح بادية على الوجوه، والسياح بالعشرات حائرون بين التقاط صور مع عارضي الأفاعي الراقصة على أنغام المزمار، وملاعبة القردة المُشاغبة وهي تنط بثوبها الأخضر الفاقع من رأس أصلع برّاق إلى ثان بسحنة روسية، وهنا التقت "الصحيفة"، سيباستيان وهو سائح إسباني، قدم إلى جانب أكثر من 73 من مواطنيه لقضاء عطلته السنوية، ولم يُعر أي اهتمام بكل التحذيرات من الهزات الارتدادية.

يقول سيباستيان وهو محام في بيلباو شمالي إسبانيا، إنها المرة الرابعة التي يزور فيها المغرب، وفي كل مرة ينبهر بجمال طبيعته وكرم أهله، مضيفا: "أعتبر مراكش مدينة الأحلام، هنا الوجوه مبتسمة دائما وفرحة بقدوم الضيوف، تُحسهم صادقين في العطاء والطيبوبة، وفضّلت ألا ألغي رحلتي على الرغم من كل الأقاويل ومحاولات ثنيي عن ذلك، لقد جئت ولم يتغيّر شيء سواء في الفندق أو جودة الخدمات ولا حتى في معاملة الناس والأكيد في الأكل المغربي اللذيذ وقد أمدد موعد سفري أكثر، أنا مرتاح جدا، وأحببت كل شيء كما العادة".
سيباستيان ومرافقيه، جميعهم وبدون استثناء، بمن فيهم خمس فرنسيين كانوا ضمن هذا الوفد أكدوا لـ "الصحيفة"، أن "المغرب فاجأهم بحسن تدبيرهم لفاجعة الزلزال ومسارعتهم للإعمار والنهوض من جديد" مشدّدين على أنها مهمة "لاشك وأنها صعبة، لكن على ما يبدو قيادة البلد متحكمة في زمام الأمور، والشعب هنا سعيد ويرحب بنا بالنكت والفرح وأتاي والأكل والورود، فرحون جدا بتواجدنا هنا في مراكش".
كل شيء في مكانه، بائعي حساء الحلزون، و العصائر، والعطارين والحناء وغيرهم، مسجد الخربوش، المتموقع القرب من زقاق القصابين التجاري بساحة جامع الفنا، الذي لحقت صومعته وأجزاء منه أضرارا واضحة جراء الزلزال المدمر، فيما شرعت سواعد العمال المغاربة في ترميمها الخميس الماضي وقد التحفت بالعلم المغربي.
قال أحد العمال في موقع المسجد لـ "الصحيفة"، إن ترميم الصومعة لن يأخذ وقتا كثيرا، مشيرا إلى أن التعليمات التي توصلوا بها تُشدد عليهم ضرورة الإسراع في إعادة الأمور إلى نصابها، مضيفا: "سيرجع كل شيء أفضل مما كان عليه، في غضون أسابيع معدودة ستنتهي، خلافا لحي الملاح الذي تضرر بشكل كبير خصوصا المنازل التقليدية الهشة، ولكن على العموم كل شيء سيرجع ومراكش قادرة على ذلك، والمغاربة عازمون"..
استعدادات الدقائق الأخيرة
بعيدا عن ساحة جامع الفنا الغنّاء، انتقلت "الصحيفة"، إلى منطقة باب إغلي بعاصمة النخيل حيث الأشغال على قدم وساق لتشييد قرية مستدامة على مساحة تمتد إلى 23 هكتارا، فيما تصل المساحة الإجمالية المستعملة إلى 45 هكتارا أخذا بعين الاعتبار المرائب وطرق الوصول، من المرتقب أن تحتضن الاجتماعات السنوية لمجلسي محافظي مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي محافظي البنوك المركزية، ووزراء المالية والتنمية، والبرلمانيين، وكبار المسؤولين من القطاع الخاص، وممثلي منظمات المجتمع المدني، والأكاديميين، وذلك لمناقشة القضايا ذات الاهتمام العالمي، ومنها الآفاق الاقتصادية العالمية.
وباتت الترتيبات تسارع عقارب الزمن لإنجاح هذا الموعد الدولي الهام الذي ينظم في القارة الإفريقية لأول مرة منذ 50 عاما، بحضور أكثر من 14 ألف مشارك ومؤتمر رفيع المستوى، بمن فيهم 4 آلاف و500 مشارك ضمن الوفود الرسمية الممثلة في وزراء الاقتصاد والمالية وشخصيات حكومية وازنة، ومحافظو البنوك المركزية للدول الأعضاء الممثلة لحوالي 189 دولة، و3 آلاف و500 مشارك من مؤسسات دولية وإقليمية من عالم المال والأعمال، إلى جانب 2000 مشارك من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، و1500 خبير وجامعي، فضلا عن 1000 مشارك ممثل للمنظمات الدولية والمحلية، فيما سيُغطي هذا الحدث حوالي 800 صحافي ممثلين لعشرات من وسائل الإعلام الدولية وكذلك الوطنية.

والقرية التي شرع المغرب في تشييدها، سبق واحتضنت مؤتمر الأمم المتحدة حول المناخ (كوب 22) عام 2016، الذي حضره عدد من قادة وزعماء العالم، ومن المرتقب أن تتوفر على جميع البنى التحتية الضرورية ضمن الأحداث الكبرى، بما فيها القاعات الكبرى التي ستكون وجهة للنقاش بين الخبراء العالميين، بحيث ستُخصص القاعة الكبرى للافتتاح، بسعة واسعة تبلغ حوالي 4 آلاف مشاركة، إلى جانب 46 قاعة بمساحات تتراوح ما بين 250 إلى 1200 متر مربع، و650 فضاء للمكاتب، وفضاء لكبار الشخصيات، ومكتبا للحصول على الاعتماد، إضافة إلى فضاءات مخصصة للإعلام والمطاعم والولوجيات وكذا المرافق الصحية، والأمنية.
بتأشير من الخبراء الفنادق والشوارع مستعدة
ومع مطلع شهر أكتوبر الجاري، بدأت مدينة النخيل الشامخة تتزين بألوان أعلام الدول، وشرعت السلطات المحلية في تنصيب اللوحات الإعلانية في مختلف زوايا المدينة وشوارعها الكبرى، وعلى طول شارع محمد الخامس حيث تم تعليق لافتات المؤتمر التي تُرحب بضيوف المملكة، كما حجز صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بدعم من السلطات المغربية، ما يناهز 45 فندقا مصنّفا حتى الآن لاستقبال الوفود الرسمية، وسيخضعون لمراقبة الشركة المغربية للهندسة السياسية للسهر على اعتماد مخطط عمل يضمن تحقق ظروف وجودة الاستقبال والإيواء.
وبهذا الخصوص تقول مريم لطيف، المديرة العامة لوحدة فندقية مصنّفة، إن مراكش على أتم استعداد لاحتضان التظاهرة الدولية لأول مرة في البلاد، على الرغم من ظروف الزلزال المدمر الذي ضرب أقاليم وأحزن جموع المغاربة، مورد: "من المهم بالنسبة لنا انعقاد هذه التظاهرة في وقتها، لكي نقول للعالم إننا لن نيأس، وأن المغرب سائر في طريقه نحو التنمية، ولن تثنية الهزة الأرضية".

وشدّدت لطيف في حديثها لـ "الصحيفة"، على أن مراكش لطالما احتضنت التظاهرات العالمية، والزلزال لم يُحبط شيئا من قدرتها وإرادتها، سيّما وأن جميع الفنادق لم تتضرر جراء الفاجعة، كما أن الجودة مضمونة ومستمرة في مدينة لطالما استقبلت الوفود والسياح من مختلف دول العالم وعلى اختلاف إمكانياتهم المادية ووضعيتهم الاجتماعية.
وأكدت المتحدثة لـ "الصحيفة"، أن السلطات مرفقة باللجن المختصة ومختبر مكتب الدراسات، وفدت على عدد من الفنادق للتأكد من جاهزيتها لاستقبال الضيوف وأمنهم وسلامتهم الجسدية والمعنوية، ولم تُؤشر إلا بعد أن تحققت علميا وهندسيا من طرف الخبراء الذين زاروا معظم فنادق المدينة، مضيفة: "كما استطعنا دائما، نستطيع الآن ودائما لتنظيم هذا الحدث، ونحن جد سعداء بضيوفنا، وأهلا بهم في مراكش".
ومن المرتقب، أن تناقش اجتماعات مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ست مواضيع رئيسة، في مقدمتها، الشمول المالي والرقمي، التنمية المستدامة، إصلاحات المؤسسات المالية الدولية، ريادة الأعمال والابتكار، شبكات الأمان الاجتماعي والتسامح والتعايش.

وكان رئيس الحكومة عزيز أخنوش قد قام، الإثنين الماضي، بجولة في الفضاء الذي سيحتضن الاجتماعات، وذلك للوقوف بشكل فعلي على تقدم الأشغال، والاطلاع على مدى جاهزية الفضاء لاستقبال المشاركين في أفضل الظروف.
وأكد أخنوش، أن اختيار المغرب من أجل احتضان لقاء عالمي من مستوى الاجتماعات السنوية العامة لمجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والتي تنعقد بعد كل 3 سنوات في قارة مختلفة، يعكس الاهتمام الخاص الذي توليه المؤسسات المالية الدولية للمملكة المغربية، مشيرا إلى أن هذا الحدث يعد مناسبة سانحة للمغرب، لإسماع صوت القارة الإفريقية لدى المجتمع الدولي، داعيا مختلف الجهات المعنية، من وزارات وسلطات محلية بمدينة مراكش، إلى بذل قصارى الجهود من أجل إنجاح هذا الحدث المهم، واستقبال المشاركين في أفضل الظروف.




