مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي في موريتانيا يثيرون “صدمة ثقافية” ونقاشا اجتماعيا وسياسيا حول المحتوى المنشور
في زمن تحكمه الشاشات الصغيرة وتُدار فيه الحياة الاجتماعية من خلف عدسات الهواتف الذكية، يتصدر مشهد الشهرة في موريتانيا أسماء لم يكن لها موطئ قدم في الإعلام التقليدي. فأمام منصات مثل “تيك توك” و”فيسبوك”، و"سناب شات" تحوّل بعض الأفراد إلى شخصيات عامة بين ليلة وضحاها، إما من خلال محتوى يراه البعض هزلياً أو عبر بث مباشر يقف عند حافة الجدل والإثارة.
محمد سي، الرجل الأربعيني الذي يستهل بثه المباشر عبر “تيك توك” بجملة: “كومبا امْ نلدي، كومبا آمولديْ”، وهي عبارة أولفية تعني “كومبا لديها فم وكومبا ليس لديها فم”. وهو الشخص الذي سبق أن سُجن بعد مشادة على خلفية فتاة “أبت أن تتزوجه”، لا يكتفي بالحديث عن سياسات الحكومة والشأن العام والقضية الفلسطينية، بل يرقص تارة، ويُجيز جلد زملائه تارة أخرى.
محمد سي ليس حالة منفردة؛ فهناك غيث الموريتاني، وتاجم ريم، ومارينز أزويرات، وحبيب جوليت، وبزيد وغيرهم، ممن اختاروا منصات التواصل بوابةً إلى الظهور، بعضهم من خمس سنوات مضت، وآخرون قبل ذلك. يجمع بينهم خيط من الهجوم اللاذع والرقص والسخرية، أو الادعاء بالخبرة الاجتماعية وتقديم مقترحات شبابية، وكلهم يمارسون أشكالاً متعددة من التأثير الرقمي.
في هذا النوع الساحات، تنشب “معارك” لفظية مفتوحة، يغيب عنها المنطق، ويعلو فيها صوت الشتائم واللغة المنفلتة. كما أن القناعة السائدة لدى بعض الناشطين أن المحتوى المثير هو مفتاح الشهرة، حتى وإن تطلب ذلك اللجوء إلى الكذب، أو التلفيق، أو النفاق، أو التضحية بقيمة الكلمة، في سبيل جذب المتابعين.
القيم الثقافية في مفترق طرق
في موريتانيا، حيث تقف القيم الثقافية في مفترق طرق أمام موجات التكنولوجيا المتسارعة، بات مفهوم الشهرة يعاد تعريفه. لم تعد النجومية حكرًا على منابر الإعلام التقليدي، بل أصبح الوصول إليها مرهونًا بالقدرة على التفاعل والتأثير عبر “المجتمع الرقمي”.
ورغم الأعداد الكبيرة من المتابعين، إلا أن كثيرًا من “المشاهير” – لا سيما النساء – يتعرضون لانتقادات لاذعة بسبب مشاركة تفاصيل حياتهم الشخصية. يعتبر المنتقدون أن هذه المشاركات تتنافى مع خصوصية المجتمع وقيمه.
الناشطة الإعلامية حنان بشير في حديث بها لها رأت أن “الشهرة الرقمية لم تعد محصورة في الفضاء الافتراضي، بل أصبحت ظاهرة اجتماعية واقتصادية حقيقية”.

وتضيف أن هذه الشهرة تتطلب مهارات تتعدى الشكل الظاهري، أهمها بناء علاقة ثابتة مع الجمهور، لكنها – في الوقت نفسه – تؤثر في المجتمع ككل، لا في الأفراد وحدهم.
أما الناشط الرقمي سيدي عبد الله فيحذر من “الصدمة الثقافية” التي سببها الانتشار السريع للتطبيقات في المجتمع الموريتاني. ويشير إلى أن “العقل البشري لم يُصمم لتحمل النقد اليومي المستمر، مما يجعل الشهرة تحدياً نفسياً قبل أن تكون إنجازاً”.
أعباء الشهرة
يؤكد الطبيب النفسي الشيخ محمد فاضل كوهي في تصريح لـ”الصحيفة”، أن “ضغوط الشهرة تُسبب مشاعر دائمة من القلق والتوتر، نتيجة محاولة المشاهير تلبية توقعات الجمهور والإعلام، سواء في الأداء أو المظهر”.
ويضيف أن “فقدان الخصوصية هو من أبرز مصادر الضغط، خاصة في ظل المراقبة الدائمة من الجمهور، ما يؤدي إلى انعدام التوازن بين الحياة الشخصية والمهنية”. كما أن التنمر والنقد اللاذع على وسائل التواصل يسهمان في تفاقم المشاكل النفسية، ما قد يفضي إلى الاكتئاب والإرهاق الذهني. ويرى أن “القلق من فقدان المكانة الاجتماعية يدفع البعض إلى السعي المفرط نحو الكمال، ما يؤدي بدوره إلى اختلالات نفسية ومعرفية تجعل تصرفاتهم غير منضبطة في كثير من الأحيان”.
تناقض في التلقي
المفارقة، حسب رأي الصحفي محمد الأمين أحمد، تكمن في الجمهور نفسه. “الناس ينتقدون انتشار محتوى تافه، لكنهم يرفعون مشاهداته بأرقام كبيرة”، على حد تعبيره، مشيراً إلى أن “المشكلة لا تكمن في المنصات بقدر ما تتعلق بنوعية المحتوى”. ويضيف أن “أغلب من تحولوا إلى نجوم محتوى، هم أشخاص أخفقوا في حياتهم الدراسية والمهنية، فاتخذوا من الشبكات الاجتماعية مهرباً”.
وتحولت منصة “تيك توك” إلى ساحة صاخبة، يسيطر عليها ما يُعرف بـ”الجولات” – بثوث مباشرة تضم مشاهير ومتابعين في جلسات مفتوحة للنقاش أو السجال. ورغم انتشارها، تتعرض هذه الجولات لانتقادات واسعة، إذ يرى البعض أنها “رمز للابتذال والانحلال الأخلاقي”، بل وذهب البعض إلى المطالبة بحظر التطبيق نهائيًا في البلاد.
وكان نواب برلمانيون، بلع عددهم 41 قد طالبوا السلطات المختصة، في رسالة موجهة إلى وزير التحول الرقمي الموريتاني، بضرورة حظر تطبيق "تيك توك" في موريتانيا، لخطورته على الشباب والمراهقين وتأثيراته السلبية على النسيج الاجتماعي والقيم الأخلاقية. واعتبر النواب في الرسالة أن تطبيق "تيك توك" الذي يقبل عليه الشباب الموريتاني بصفة كبيرة، "أصبح يمثل خطرا داهما على النسيج المجتمعي من خلال نشر محتوى مخالف للقيم الدينية والأخلاقية".
خطوة نحو التنظيم
في محاولة لضبط الفوضى الرقمية، أعلنت مجموعة من الناشطين، في أبريل 2024 عن تأسيس "إتحادية المشاهير الموريتانيين".
الاتحادية، التي تضم نحو 50 عضوًا، تهدف – بحسب المسؤول الإعلامي سيد أحمد باب أمباتي – إلى “محاربة المحتوى الساقط والضار، وتوجيه المؤثرين نحو تقديم محتوى نافع”.
ويقول أمباتي لـ"الصحيفة"إن "الاتحادية وضعت معايير دقيقة لقبول الأعضاء، ترتكز على تقييم المحتوى المقدم لضمان توافقه مع القيم الاجتماعية"، مؤكدًا أن الغاية منه هي “تحويل الشهرة إلى أداة تنموية إيجابية”.
في ذات السياق، أظهرت دراسة نشرت مجلة Nature Human Behavior أن مشاهدة وسائل التواصل يرتبط بزيادة معدلات القلق والاكتئاب، خصوصًا لدى من يبحثون عن محتوى سلبي.
ويحذر خبراء في علم النفس والاجتماع من أن الشهرة الرقمية في المجتمعات الناشئة – مثل موريتانيا – قد تؤدي إلى عزلة نفسية. فالمشهور قد يجد نفسه حبيس صورة خلقها له الجمهور، لا يستطيع منها انفكاكًا، ما يجعله أكثر عرضة للضغوط النفسية والإدمان الرقمي.
وكانت مجموعة من الناشطين على منصة “فيسبوك” قد أطلقوا في وقت سابق حملة لإلغاء متابعة هؤلاء المشاهير، احتجاجًا على ما وصفوه بـ”سلبية محتواهم وتأثيرهم الضار على الأفراد، خصوصًا غير البالغين”، معتبرين أن بعض ما يُقدّم على هذه المنصات لا يراعي القيم المجتمعية، ويُكرّس أنماطًا من السلوك لا تليق ببيئة محافظة.
ومع تزايد حملات “إلغاء المتابعة” والمقاطعة التي تُوجّه ضد عدد من مشاهير “تيك توك” و”سناب شات”، تتزايد أيضًا الأسئلة عن مستقبل هذه الظاهرة: هل هي مرحلة مؤقتة أم تحوّل دائم في خارطة التأثير الاجتماعي والثقافي في موريتانيا؟




