مع بدء دراسة الأثر البيئي.. برشيد تحتضن أول مشروع لصناعة المدرعات القتالية وتدشّن دخول المغرب عصر التصنيع الدفاعي
أطلق المغرب واحدة من أكثر الخطوات الاستراتيجية جرأة في مسار تعزيز استقلاله الدفاعي وتوطين صناعته العسكرية، عبر شروعه في إقامة أول وحدة صناعية وطنية مخصصة لإنتاج العربات المدرعة على أراضيه، وذلك في إطار شراكة تقنية وصناعية مع شركة Tata Advanced Systems Limited، الذراع الدفاعي لمجموعة "تاتا" الهندية الرائدة في قطاع الصناعات الدفاعية.
المشروع، الذي يتمركز في مدينة برشيد، دخل مراحله التحضيرية الفعلية بعد أن تقدمت الشركة الشريكة بطلب رسمي للسلطات المحلية من أجل إنجاز دراسة لتأثيره البيئي، في احترام للمقتضيات القانونية المنظمة، خصوصا القانون رقم 12-03 المتعلق بدراسات التأثير على البيئة، وهو ما وافق عليه عامل الإقليم، جمال خلوق، بتاريخ 4 يوليوز الجاري، حيث ستُفتح فترة المشاورات العمومية بين 28 يوليوز الجاري و16 غشت المقبل لتلقي ملاحظات ومواقف الساكنة المحلية.
ويشكل هذا المشروع ثمرة اتفاقية استثمار تم توقيعها في شتنبر من السنة الماضية بين إدارة الدفاع الوطني المغربية والوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والصادرات من جهة، ومجموعة "تاتا" من جهة أخرى، من أجل إرساء صناعة دفاعية متقدمة فوق التراب الوطني.
ويقوم المشروع تحديدا على تصنيع العربة القتالية البرية WhAP 8×8، وهي منصة مدرعة برمائية متعددة المهام طورتها الهند، وتتمتع بقدرات كبيرة على التنقل في مختلف أنواع التضاريس، وتُستخدم بشكل أساسي في مهام نقل المشاة والعمليات القتالية المباشرة.
وبحسب المعطيات التقنية الرسمية، فإن المشروع يطمح إلى إنتاج أكثر من 400 عربة، سيتم تزويد القوات المسلحة الملكية بـ 150 منها، موزعة على نسخ قتالية مختلفة، وستتم أشغال إنشاء المصنع وفق جدول زمني يمتد إلى 36 شهرا، على أن يبدأ بنسبة إدماج محلي تبلغ 35 في المئة في المرحلة الأولى، لترتفع تدريجيا إلى 50 في المئة في مرحلة لاحقة، ضمن مسار تدريجي يروم تعميق المحتوى المحلي وتوسيع المعرفة الصناعية الوطنية في مجال الصناعات الدفاعية.
ومن المنتظر، أن تبلغ الطاقة الإنتاجية للمصنع 100 عربة مدرعة في السنة الأولى، وأن يُحدث ما يقارب 90 منصب شغل مباشر، إلى جانب 250 فرصة عمل غير مباشرة مرتبطة بسلاسل التوريد والخدمات الموازية.
ويمثل هذا التحول الصناعي قفزة نوعية في العقيدة الدفاعية والصناعية للمغرب، حيث يعكس إرادة واضحة لتقليص التبعية الخارجية في مجال التسلح، وتطوير قدرات محلية عالية التقنية، تتماشى مع الرؤية الملكية التي تؤكد في مناسبات عدة على ضرورة تحقيق السيادة الصناعية والتكنولوجية في القطاعات الاستراتيجية، وفي طليعتها الدفاع والأمن.
ولا يأتي هذا التوجه بمعزل عن الدينامية المتسارعة التي تعرفها القوات المسلحة الملكية، والتي شهدت خلال السنوات الأخيرة انفتاحا متزايدا على تنويع مصادر التسلح، من بينها التكنولوجيا الإسرائيلية المتقدمة، والمروحيات الهجومية، والطائرات المسيرة، ومنظومات الصواريخ بعيدة المدى، مما يجعل من مشروع تصنيع المدرعات خطوة تكميلية لتعزيز منظومة القوة القتالية الوطنية.
ويعكس هذا التوجه أيضا رغبة المغرب في ترسيخ شراكات صناعية متقدمة مع الفاعلين العالميين، بما يتيح نقل المعرفة، وتطوير سلسلة قيمة محلية، وفتح آفاق تصدير محتملة نحو أسواق إقليمية ودولية في المستقبل، ففي ظل التوترات الجيوسياسية الإقليمية وتزايد التحديات الأمنية، يندرج المشروع ضمن رؤية استباقية تجعل من تمكين المغرب من قدرات تصنيع عسكري محلي خيارا استراتيجيا لا رجعة فيه.
وفي هذا الإطار، قال الخبير العسكري والاستراتيجي سعيد منتصر، إن مشروع إنشاء أول مصنع لإنتاج العربات المدرعة في إقليم برشيد يمثل "تحولا استراتيجيا في المقاربة الدفاعية للمغرب، ويجسد بداية فعلية لمسار توطين صناعة السلاح، وتقليص التبعية التقليدية للخارج في مجال التزود بالمعدات القتالية".
وأوضح الخبير منتصر في تصريح لـ "الصحيفة"، أن "العربة WhAP 8×8 التي سيجري تصنيعها تُعد من المنصات القتالية متعددة المهام، وهي مدرعة برمائية تم تطويرها في الأصل من طرف منظمة DRD الهندية بشراكة مع شركة تاتا، وتستخدم حاليا من طرف الجيش الهندي في مهام دعم المشاة، والاستطلاع، وحماية القوافل".
وأضاف أن اختيار المغرب لهذا النوع من العربات يعكس حرصه على بناء منظومة دفاع مرنة، قادرة على التحرك في بيئات متنوعة، سواء في المجال الصحراوي أو الجبلي، بفضل منظومتها الدفعية 8×8 ومحركها القوي الذي يفوق 600 حصان، كما أشار إلى أن المدرعة قابلة للتسليح بمنظومات مختلفة، من بينها مدافع 30 ملم، أو صواريخ موجهة مضادة للدروع، ما يفتح المجال أمام نسخ متعددة تلبي حاجيات القوات البرية المغربية.
وأكد المتحدث، أن بلوغ نسبة إدماج محلي تصل إلى 50% في أفق ثلاث سنوات يُعد مؤشرا واعدا على قدرة المغرب على تطوير نواة صناعية دفاعية تنافسية، خصوصاً مع توفر قاعدة بشرية متعلمة، وبنيات تحتية صناعية يمكن تكييفها لخدمة هذه الأجندة، كما لفت إلى أن المغرب، من خلال هذا المشروع، ينخرط في اتجاه عالمي متسارع نحو توطين الصناعة العسكرية، مذكراً بأن أكثر من 70 دولة اليوم تمتلك قدرات إنتاج محلية في مجال الصناعات الدفاعية، بعضها في طور النشوء، وبعضها الآخر في مستويات متقدمة.
واعتبر الخبير العسكري أن هذه الخطوة تندرج في سياق إقليمي متوتر، وتجاوبا مع تحديات أمنية متزايدة في الساحل وجنوب المتوسط، مما يفرض تعزيز الجاهزية الذاتية، وتطوير قدرات الردع، وتقوية سلاسل التزويد المحلية، فيما ختم بالقول إن "امتلاك قدرة إنتاج مدرعات متطورة على التراب الوطني هو أكثر من مجرد ورش صناعي، إنه تعبير عن إرادة سيادية تُعطي للمغرب هامش مناورة أوسع في تعامله مع شركائه، وتقلص من هشاشة الاعتماد على الخارج في أوقات الأزمات والاضطرابات الدولية".




