من "ما عنديش الرجال" إلى "تلمسان مغربية خط أحمر".. أنيسة بومدين من منفاها بباريس تُعيد إنتاج تركة زوجها في تبرير اعتقال صنصال وتسويغ قمع الداخل
في الوقت الذي يكافح فيه الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال للبقاء على قيد الحياة داخل زنزانة جزائرية باردة، مثقلا بمرض السرطان وتهمة "المساس بالوحدة الوطنية"، خرجت أنيسة بومدين، السيدة الأولى السابقة للجزائر، بتصريحات مدوية اعتبرت فيها أن اعتقال الكاتب مبرر، بل ضروري لحماية "وحدة البلاد"، معتبرة من منفاها الاختياري في فرنسا، حيث تنعم بحرية الرأي والتعبير، أن تصريحاته بشأن مغربية تلمسان "أمر خطير" يستحق العقاب.
"على الإطلاق" كان ردّ أنيسة بومدين القاطع، حين سُئلت عمّا إذا كانت تطالب بإطلاق سراح بوعلام صنصال حيث برّرت موقفها بتصريحات أدلى بها الكاتب اعتبر فيها أن تلمسان وبعض المدن الجزائرية الأخرى "تنتمي تاريخيا إلى المغرب"، وهو ما اعتبرته بومدين "تجاوزا للخطوط الحمراء"، معتبرة في لقاء إذاعي على "أفريكا راديو"، أن تصريحاته الأخيرة بشأن مغربية مدينة تلمسان تشكل "مسا خطيرا بوحدة الأمة"، وتُبرر حسب رأيها استمرار حبسه، حيث أضافت من منفاها بفرنسا "تخيلوا لو أن سكان نيس أو قسنطينة فضلوا أن يكونوا مع الإيطاليين".
ورغم أن صنصال يُعاني من السرطان ويُحتجز في ظروف صحية حرجة، فإن بومدين لم تأتِ على ذكر حالته الصحية ولا على مناشدات وزارة الخارجية الفرنسية التي طالبت مرارا بـ"بادرة إنسانية"، ما أثار تساؤلات حقيقية حول مدى تغلغل منطق الدولة الأمنية في ذهنية النخبة السياسية الجزائرية حتى في ظل الإقامة المريحة خارج البلاد.
وقد علّق الكاتب الجزائري كمال داود على تصريحاتها قائلا بسخرية: "أنيسة بومدين تعيش في فرنسا وتنعم بالحرية هناك"، في إشارة إلى التناقض بين حديثها عن "وحدة الأمة" وصمتها عن التراجع الحاد في الحريات داخل الجزائر".
وانطلقت يوم 24 يونيو الجاري محاكمة بوعلام صنصال أمام محكمة الاستئناف في الجزائر العاصمة، حيث وُجهت إليه تهم "المساس بالوحدة الوطنية" و"نشر معلومات كاذبة"، وهي التهم التي يراها مراقبون فضفاضة تُستخدم لترهيب المثقفين وقمع حرية التعبير.
النيابة العامة من جانبها، طالبت بالحكم عليه بـعشر سنوات سجنا، بينما لجأت لجنة الدعم الخاصة به إلى تقديم شكاية إلى وسيطة الاتحاد الأوروبي متهمة مؤسسات الاتحاد بـ"التقاعس في التدخل"، ما يُبرز البُعد الدولي الذي بدأت تأخذه القضية، فيما ينتظر صدور الحكم النهائي يوم 1 يوليوز 2025، وسط تنديد حقوقي متزايد، واستمرار الصمت الرسمي في الجزائر، وصمت عربي أوسع، فيما فرنسا تُحاول تجنّب التصعيد مع الجزائر في ظرف إقليمي ودبلوماسي هش.
هذا، ولم تتوقف تصريحات بومدين عند ملف صنصال، بل استغلت الفرصة للعودة إلى موضوع الصحراء، القضية الشائكة التي تُغذي التوتر التاريخي بين المغرب والجزائر، وتُعمّق الخلاف القائم بين باريس والجزائر، حيث انتقدت الموقف الفرنسي المؤيد لمبادرة الحكم الذاتي المغربية، معتبرة أن "العلاقات الطبيعية بين الدول تتطلب الحياد"، في إشارة واضحة إلى دعم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للموقف المغربي، كما أكدت أن "أي تطبيع للعلاقات بين باريس والجزائر لن يكون ممكنا دون موقف فرنسي أكثر توازنا".
ورغم أنها تتحدث من باريس، عاصمة الحريات والحقوق، فإن خطاب بومدين عكس تمسّكا بقراءة تقليدية للسيادة تُقدّم الأمن القومي على حرية التعبير، وتُوظّف التاريخ والجغرافيا لتبرير السجون السياسية، ما أثار حفيظة المدافعين عن الديمقراطية في الجزائر وخارجها، فليس بوعلام صنصال مجرد كاتب آخر وراء القضبان، بل أصبح رمزا لما يسميه بعض المحللين "تآكل الجمهورية الجزائرية من الداخل"، إذ يُشكل اعتقاله، في هذا العمر ومع هذه المسيرة الأدبية، مؤشرا على ما آلت إليه أوضاع حرية الرأي والمثقف النقدي في الجزائر.
وروايته 2084 كانت محاولة أدبية لاستشراف المستقبل تحت أنظمة شمولية تستند إلى "القداسة السياسية"، وهو ما قد يُفسر جزئيا لماذا أصبح هدفا للسلطة، كما أن تصريحاته عن مغربية بعض المناطق الجزائرية أعادت إلى السطح النزاع التاريخي الجزائري المغربي، فتم استخدامه كـ"كبش فداء" لتصفية حسابات إقليمية، وباتت عل إثر ذلك الجزائر تحاكم اليوم صوتا حرا باسم "الوحدة الوطنية"، وتُكمم فم كاتب في الثمانين وهو يُصارع المرض، في وقت تنأى فيه النخب القديمة بنفسها عن الدفاع عن القيم الكونية التي تتغنّى بها حين يُتاح لها الحديث من باريس.
من جهة ثانية، لا يمكن فهم موقف أنيسة بومدين من بوعلام صنصال دون العودة إلى المسار السياسي والذهني الذي شكّله زوجها الرئيس الراحل هواري بومدين، أحد أكثر القادة الجزائريين تأثيرا في صياغة العقيدة العدائية الجزائرية تجاه المغرب، فهو الذي كان جزءا من ما يُعرف بـ"مجموعة وجدة" إلى جانب عبد العزيز بوتفليقة، عاش في المغرب، واحتضنته المملكة في سنوات الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، قبل أن يُدير ظهره للجار الغربي بعد الاستقلال، ويشعل فتيل واحدة من أطول الأزمات الجيوسياسية في المنطقة المغاربية.
بداية القطيعة لم تكن فقط مع المسيرة الخضراء، بل مع ما سُمّي بـ"المسيرة السوداء" سنة 1975، حين أقدم بومدين، في قرار صادم، على طرد أكثر من 45 ألف مغربي من الجزائر في عزّ عيد الأضحى، انتقاما من استرجاع المغرب لصحرائه بطريقة سلمية ودولية ولم تكن تلك مجرد عملية ترحيل، بل كانت فعلا سياسيا محكوما بمنطق الإذلال، يُجسّد مدى التورم المرضي في تصور النظام الجزائري لملف الصحراء.
وإن كان بومدين قد خسر المواجهة العسكرية في حرب الرمال سنة 1963، واعترف سلفه ابن بلة حينها بمرارة الهزيمة في جملته الشهيرة "حكرونا المغاربة"، فإن الرئيس الراحل لم يتقبل ذلك قط، وحين سنحت له الفرصة سنة 1975، راودته فكرة الانتقام عبر حرب مباشرة ضد المغرب، لكن المؤسسة العسكرية الجزائرية خذلته، وواجهته بحقيقة مرة عبّر عنها الرئيس الشاذلي بن جديد لاحقا حين قال: "الجيش يفتقر إلى الإمكانيات والتنظيم.. ولسنا مستعدين لحرب".
فكان رد بومدين: "إذن ما عنديش الرجال!"، وهي العبارة التي دوّنها بن جديد في مذكراته ونقلها الجزائريون جيلا بعد جيل، باعتبارها تعبيرا عن خيبة رجل أراد حربا تُعيد إليه كبرياءه المهدور.. فعوض أن يخوضها، سلّم الملف لبوتفليقة، وقال له: "حضّر كتائبك يا سي عبد العزيز"، في إشارة إلى بدء الحرب الدبلوماسية والدعائية ضد المغرب.
وبلغت ذروة العداء مع المغرب حدّ التخطيط لاستهداف حياة الملك الحسن الثاني نفسه، فقد كشفت مذكرات الإرهابي الدولي "كارلوس" أن بومدين استعان به سنة 1978 لتدبير عملية اغتيال الملك في الرباط، بإشراف مباشر من جهاز أمني جزائري، اعتمادا على دعم استخباراتي من أحد الجنرالات المغاربة المنشقين. إلا أن العملية فشلت بفعل "أقدار مفاجئة"، كان أهمها وفاة بومدين نفسه يوم 27 ديسمبر 1978.
ومن هذا الإرث، تستقي أنيسة بومدين اليوم مواقفها العدائية، التي تُدافع فيها عن استمرار قمع كاتب لمجرد أنه تساءل عن الحدود والهوية، وكأنها تُعيد بعث تركة سياسية قائمة على التنكر والإنكار والعداء الأبدي، ففي تصريحاتها الأخيرة، لم تكن مجرد محامية سابقة تُبدي رأيا قانونيا، بل كانت لسان حال عقيدة الدولة العميقة في الجزائر، التي ترى في المغرب دائما تهديدا، وفي كل صوت حر "خيانة".
وفي تناقض صارخ، تتحدث أنيسة من عاصمة الحريات باريس، حيث تنعم بحق التعبير والتنقل، بينما تُبرر اعتقال كاتب مريض في وطنه فقط لأنه عبّر عن رأي، وهي تصريحات تفهم بما تحمله من غلّ سياسي وإصرار على التوريث الرمزي للعداء، لا تعبّر فقط عن موقف من كاتب بعينه، بل عن عجز عميق في التحرر من سردية الثورة–العدو–الضحية التي صنعها بومدين وورثها النظام الجزائري، وهي سردية لا ترى في المغرب سوى خصم أزلي، حتى لو كان هو نفسه من احتضن "الثورة الجزائرية"، وساندها بالسلاح والرجال والأرض.





تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :