هل تتجه الدولة لدفن الوظيفة العمومية؟
تسير الحكومات المتعاقبة منذ 2011، في مسار جديد يثير الكثير من القلق داخل القطاعات الاجتماعية الحساسة، فبعد سنوات من التطمينات حول دعم الدولة للخدمات الاجتماعية الأساسية، تبرز مؤشرات قوية على تغيير عميق في فلسفة تدبير الموارد البشرية، يقوم على إخراج فئات واسعة من الموظفين من الوظيفة العمومية التقليدية ونقلهم إلى أنظمة جديدة أقل ضمانًا وأكثر مرونة من وجهة نظر الدولة لكنها أكثر هشاشة بالنسبة للموظفين.
هذا التوجه لا يأتي من فراغ، بل يرتبط بشكل مباشر بالضغط الكبير الذي تواجهه الميزانية العامة. الحكومة تبحث عن تخفيف العبء المالي عبر ما تسميه "التمويلات المبتكرة" وتثمين الأصول العمومية، وأيضا عبر سياسات إعادة الهيكلة التي تستهدف الموارد البشرية. غير أن هذه المقاربة التقنية تخفي خلفها تحول سياسي عميق يطال بنية الدولة الاجتماعية نفسها، ويطرح أسئلة حول مستقبل المهن الحيوية التي يقوم عليها استقرار المجتمع.
فمنذ استقلال المغرب، لعبت الوظيفة العمومية دور مركزي في بناء المجتمع المغربي الحديث، إذ كانت لعقود طويلة الآلية الأساسية لتحقيق التسلق الاجتماعي وفتح أبواب الترقي أمام فئات واسعة من المغاربة. لم تكن الوظيفة مجرد مصدر دخل، بل كانت ضمانة للاستقرار الأسري، ومسار واضح للترقي المهني، وسُلّم اجتماعي مكّن أبناء القرى والمناطق المهمشة من الوصول إلى مواقع اجتماعية واقتصادية أفضل.
لقد صنعت الإدارة العمومية جيلا كاملا من الكفاءات، ووفرت مجال حقيقي لانتقال الأفراد من الهامش إلى المركز، ومن الضعف الاقتصادي إلى الأمن الاجتماعي. وبفضل منظومة الحقوق المرتبطة بها—من تقاعد وتغطية صحية واستقرار وظيفي—أصبحت الوظيفة العمومية فضاء يعيد توزيع الفرص بشكل نسبي وعادل داخل المجتمع.
كما ساهمت الوظيفة العمومية، تاريخيا في محاربة الهشاشة وخلق طبقة وسطى قوية لعبت دور “صمام أمان” داخل الدولة والمجتمع. فاستقرار دخل الموظف العمومي، وانتظام مساره المهني، وحمايته من تقلبات السوق، مكّنته من الاستثمار في السكن، وتكوين أسرة مستقرة، وتوفير تعليم أفضل لأبنائه، ما عزز دورة اجتماعية متوازنة ساهمت في ضبط التوترات وتقليص الفوارق الطبقية.
هذه الطبقة الوسطى التي تشكلت حول المدرسة العمومية، والمستشفى العمومي، والإدارة العمومية، كانت ولا تزال عامل توازن سياسي واجتماعي، وحائط صدّ أمام أي اختلالات أو موجات غضب اجتماعي غير متحكم فيها. إن أي تغيير يمسّ بنية الوظيفة العمومية أو يضعف دورها، هو بالضرورة تغيير يمسّ هذا التوازن الدقيق الذي حافظ على استقرار البلاد لعقود.
لكن منذ حكومة عبد الإله بنكيران ومابعدها ظهر مسار لتفكيك الوظيفة العمومية و افراغها من العديد من القطاعات الاجتماعية ، واخر هذا المسار كان مع مشروع دمج الصناديق الاجتماعية، حيث تم النص بوضوح على نقل وإدماج الموظفين بقوة القانون داخل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، دون فتح نقاش عمومي واسع حول مصير حقوقهم الوظيفية.
وتم تقديم هذه العملية باعتبارها إصلاح تنظيمي، بينما يرى العديد من المتتبعين أنها بداية لإعادة تصنيف آلاف العاملين خارج الإطار الحمائي الصارم الذي توفره الوظيفة العمومية.
وقبل ذلك، شهد المغرب تجربة أطر الأكاديميات في قطاع التعليم، وهي التجربة التي كانت أول خطوة نحو فصل الموارد البشرية عن الوظيفة العمومية، قبل أن تتحول لاحقا إلى ملف اجتماعي متفجر بسبب غياب رؤية واضحة وبسبب التخوف من أن تصبح القاعدة بدل الاستثناء. ومع أن الدولة اليوم تسعى لتصحيح مسار هذا الملف، إلا أن تلك التجربة تبقى مؤشرا على توجه عام يتكرر بصيغ مختلفة.
الأمر نفسه تكرر داخل المندوبية السامية للمياه والغابات، حيث واجه الموظفون محاولات دمج أو إعادة تصنيف كمستخدمين داخل الوكالة الجديدة للمياه والغابات أثارت موجة من الرفض، لأن الأطر العاملة في هذا القطاع تخشى فقدان مكتسباتها التاريخية أو إدماجها في صيغ وظيفية مبهمة، قد تُضعف موقعها داخل الإدارة العمومية.
أما قطاع الصحة والحماية الاجتماعية، وهو القطاع الأكثر حساسية، فقد بدأ يعرف موجة من التحولات الإدارية العميقة بفعل إعادة هيكلة المنظومة الصحية الجديدة. هذه العملية تشمل نقل مصالح، وإحداث وكالات، وتغيير وضعيات، وهو ما يفتح الباب عمليا أمام إمكانية تحويل جزء من الشغيلة الصحية إلى صيغ تشغيل جديدة خارج النظام التقليدي للوظيفة العمومية.
وإذا كان الخطاب الرسمي يؤكد الحفاظ على الحقوق، فإن الواقع يشير إلى غياب رؤية مفصلة حول ظروف العمل، المسارات المهنية، والتغطية الاجتماعية بعد هذه التحولات.
ما يجمع بين هذه الأمثلة ليس مجرد تغييرات تنظيمية متفرقة، بل خيط ناظم واحد: محاولة تخفيف الضغط الميزانياتي عبر تحويل الموظفين إلى وضعيات وظيفية أقل كلفة على الدولة وأكثر مرونة من ناحية التدبير، حتى ولو كان الثمن هو ضرب الاستقرار المهني لموظفي القطاعات الاجتماعية.
هذا التحول، إذا استمر بنفس الإيقاع، قد يؤدي إلى تغيير شامل في وظيفة الدولة ودورها الاجتماعي، وتحويل خدمات الصحة والتعليم والبيئة إلى مجالات تشتغل بأنظمة وظيفية هجينة وغير متوازنة.
ورغم أن الحكومة تبرّر هذه الاختيارات بضرورة الحفاظ على التوازنات المالية، فإن السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه هو: هل يمكن تحقيق هذا التوازن على حساب الفئات التي تحمل على عاتقها أهم الخدمات العمومية في البلاد؟ وهل يستطيع المواطن المغربي تقبل خدمات اجتماعية تدار بمنطق المقاولة بدل المنطق العمومي الذي يضمن الاستقرار والجودة والحكامة؟
إن السياسات الميزانياتية مهما بدت تقنية، فهي في عمقها قرارات سياسية تحدد شكل الدولة لعقود قادمة. وعندما يصبح الموظف العمومي، خصوصا في القطاعات الاجتماعية، الحلقة الأضعف في معادلة الإصلاح، فإن ذلك يفتح الباب أمام تآكل الوظيفة العمومية نفسها، بل وربما أمام تفكيك تدريجي للدور الاجتماعي للدولة.
هذا المسار يحتاج إلى نقاش وطني واسع، وإلى مقاربة تقوم على الإصلاح المتدرج والحوار الاجتماعي الشامل، بدل فرض حلول جاهزة "بقوة القانون". فالمغرب في مرحلة دقيقة، ومصير الخدمات الحيوية لا يمكن اختزاله في معادلات حسابية باردة، لأن الاستثمار في الإنسان يظل أعلى قيمة من أي توازن مالي مؤقت.
باحث جامعي في العلوم السياسية



