هل ستشهد الجزائر موجة جديدة من جيل "يتنحاو كاع" لإسقاط حكم العسكر؟
لم تعد الجزائر كما كانت قبل سنوات قليلة، حين خرجت الجماهير بالملايين تهتف في الشوارع بكلمة واحدة، لكنها كانت أثقل من كل الشعارات التي عرفتها المنطقة منذ عقود: "يتنحاو كاع" أو فليتنحوا جميعهم، تلك العبارة التي انفجرت من فم شاب بسيط في لحظة غضب صادقة، تحولت في أيام قليلة إلى عنوان لثورة شعبية واسعة، استطاعت في أشهر معدودة أن تهز عرش السلطة التي اعتقدت أنها محصنة ضد التاريخ، وأنها قادرة على إدارة البلاد بمنطق الثكنة إلى الأبد.
لكن السؤال اليوم ليس عن الماضي، بل عن المستقبل: هل يمكن لتلك الصرخة أن تعود؟ هل يستطيع الشارع الجزائري أن يستعيد موجته العارمة، ليدخل في مواجهة مباشرة مع بنية حكم عسكري أثبتت السنوات الأخيرة أنها لم تتغير، ولم تتعلم، ولم تستوعب الدرس الكبير الذي قدمه الحراك الأول؟
إن المتأمل في المشهد السياسي والاجتماعي اليوم يدرك، بلا حاجة إلى كثير من التحليل، أن جذور الأزمة لا تزال حية تحت السطح. النظام العسكري نجح في إخماد الحراك، لكنه لم يطفئ النار التي أشعلته. تلك النار ما زالت جذوتها مشتعلة في صدور الشباب الذين خرجوا قبل سنوات، وما زالت أسبابها قائمة، بل أشد مما كانت عليه. فالفقر ازداد، والبطالة تضخمت، والفساد لم يتراجع، والانقسامات الداخلية داخل النظام أصبحت أكثر وضوحا، بينما تستمر السلطة في إنتاج الخطاب القديم نفسه، خطاب يخلط الوطنية بالطاعة، ويخلط الاستقرار بالإذعان، ويخلط الدولة بالمؤسسة العسكرية التي تحكمها من وراء الستار.
لقد ظنت السلطة العسكرية أن الزمن كفيل بقتل الشعارات، وأن الملاحقة القضائية كفيلة بإسكات الصحافيين والناشطين، وأن السيطرة على الإعلام كافية لصناعة واقع بديل. لكنها لم تدرك أن الشعارات التي تولد في لحظة ثورية لا تموت، بل تدخل في سبات مؤقت، ثم تنهض حين تجد ظرفا جديدا، أو شرارة جديدة، أو خيبة جديدة تعيد فتح الجرح الشعبي.
واليوم، تبدو الجزائر من جديد أمام لحظة مشحونة بكل الشروط التي يمكن أن تعيد إنتاج الموجة الأولى من يتنحاو كاع، وربما بشكل أكثر قوة واتساعا، لأن الشارع لم يعد شارع 2019، ولأن الوعي الشعبي لم يعد هو الوعي نفسه، ولأن النظام نفسه أصبح أكثر ضعفا وتصدعا.
إن انهيار الثقة بين الشعب والحكم العسكري هو أول المؤشرات على احتمال عودة الموجة الجماهيرية. فالثقة السياسية ليست مجرد شعار يرفع في الخطب، بل هي عقد اجتماعي غير مكتوب، وحين ينكسر هذا العقد، تصبح كل أدوات السلطة مجرد وسائل لتأجيل الانفجار. وهذا بالضبط ما نراه في الجزائر اليوم.
فكل القرارات التي اتخذتها السلطة، وكل التغييرات الحكومية، وكل الوعود المكررة بالإصلاح، لم تنجح في إقناع الجزائريين بأن الجزائر تسير نحو مستقبل أفضل. بل بدا، في نظر كثيرين، أن الأمور تسير في الاتجاه المعاكس تماما: المزيد من التضييق، المزيد من الاعتقالات، المزيد من التحكم الأمني، والمزيد من الاحتكار السياسي من طرف طرف واحد لا يرى في الدولة سوى امتداد لسلطته.
ومع ذلك، فإن السؤال الذي يفرض نفسه الآن ليس هل يريد الشعب عودة يتنحاو قاع، بل: هل يملك النظام القدرة على منع عودتها؟ هذا السؤال أكثر عمقا، لأن الأنظمة العسكرية لا تسقط عادة بسبب رغبة الشعوب وحدها، بل بسبب عجزها عن إدارة التناقضات الداخلية والخارجية التي تتراكم عبر الزمن. واليوم، تعيش الجزائر على وقع هذه التناقضات: اقتصاد متعثر رغم الموارد، مؤسسات سياسية شكلية، صراعات داخل الجهاز نفسه، عزلة دولية متزايدة، وانقسام اجتماعي يزداد وضوحا كلما تصاعدت الأزمات اليومية.
إن الشعور الشعبي اليوم ليس مجرد غضب، بل هو إحساس عميق بأن الدولة تدار بعقلية قديمة لا تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين، وأن المؤسسة العسكرية، مهما غيرت من مسميات أو وجوه، ما زالت تعتبر نفسها صاحبة الحق المطلق في تقرير مصير البلاد، وأن الشعب لا يعدو أن يكون مجرد كتلة يجب ضبطها أو إلهاؤها أو إخضاعها.
لكن هذه المقاربة لم تعد تنجح كما كانت سابقا، لأن المجتمع الجزائري أصبح أكثر ارتباطا بالعالم، وأكثر اطلاعا على تجارب الدول الأخرى، وأكثر وعيا بما يجري داخل مؤسساته، وأكثر رغبة في التحول إلى دولة مدنية حقيقية لا تتحكم فيها البزة العسكرية.
وإذا أردنا أن نفهم احتمالات عودة موجة جيل يتنحاو كاع، فعلينا النظر إلى المعادلات الكبرى التي تشكل لحظة الانفجار الشعبي. أول هذه المعادلات هو الاقتصاد. فكل دول العالم تعرف أن الأزمات الاقتصادية هي الوقود الرئيسي للاحتجاجات الكبرى، والجزائر اليوم تعيش أزمة صامتة، لكنها ثقيلة، وتتعمق مع مرور الوقت.
صحيح أن البلاد تمتلك موارد طاقية مهمة، لكن سوء التدبير، والفساد المستشري، والبيروقراطية القاتلة، وضياع الفرص التنموية، كلها عوامل حولت الثروة إلى عبء، وجعلت من الدولة كيانا يعيش على ريع غير مستدام، بينما يتحمل المواطن أثقال الفقر وغلاء الأسعار وانهيار الخدمات.
ثاني هذه المعادلات هو السياسة. فالسلطة التي أجهضت الحراك الأول لم تقدم أي مشروع سياسي بديل. الانتخابات كانت شكلية، الأحزاب صامتة، الصحافة مقموعة، والقضاء خاضع. وكل هذا يجعل من مشهد الحكم مشهدا مغلقا، لا هو قادر على الإصلاح، ولا هو قادر على إدارة الأزمة. الأنظمة المغلقة، عبر التاريخ، كانت الأكثر عرضة للانفجار، لأنها لا تمنح المجتمع صمامات الأمان التي تخفف من غضبه.
ثالث هذه المعادلات هو الذاكرة الشعبية. فالجزائريون لم ينسوا 2019. ذلك العام تحول إلى مرجع، لا إلى ذكرى. تحول إلى لحظة أوضح للجميع أن الشارع قادر على هز الحكم العسكري، وأن المؤسسة الأقوى في البلاد ليست محصنة كما كان يعتقد. وهذا الوعي الشعبي، حين يتجدد، لا يحتاج إلا إلى ذريعة صغيرة ليصبح قوة جارفة.
قد تكون تلك الذريعة فضيحة فساد، أو أزمة اقتصادية حادة، أو صداما مفتوحا داخل أجهزة الحكم، أو حدثا غير متوقع يعيد فتح ملف الشرعية السياسية.
أما الرابع فهو العامل الرقمي. في الحراكات الحديثة، لم تعد النقابة أو الحزب هي من يقود الشارع، بل منصات التواصل الاجتماعي. والجزائر ليست استثناء. فالنقاشات التي تجري يوميا على الإنترنت، والتي تكشف عجز النظام عن التحكم في المزاج العام، تشكل مسرحا بديلا للعمل السياسي، يسبق الشارع ويمهد له. وكلما انتشر الحديث عن يتنحاوكاع، وكلما زادت حالة السخرية والغضب من السلطة، كلما اقتربت لحظة الانفجار.
وبين كل هذه العوامل، يبقى السؤال الذي لا يريد النظام سماعه: ماذا لو عاد الشارع غدا؟ هل يملك النظام القوة نفسها التي امتلكها في السنوات الماضية؟ أم أن التصدعات الداخلية أصبحت عميقة إلى درجة تجعل أي مواجهة جديدة مع الشعب مغامرة محفوفة بالمخاطر؟
إن المؤشرات تقول إن النظام أضعف مما يبدو، وإن الكثير من التناقضات التي تم إخفاؤها خلال السنوات الماضية بدأت تظهر علنا، وإن المؤسسة العسكرية، رغم قوتها الظاهرة، لا تستطيع إلى الأبد خوض معركة داخلية وخارجية في الوقت نفسه.
وتأسيسا على ذلك، لا أحد يستطيع أن يتنبأ بالتاريخ، ولا أحد يستطيع أن يقرر نيابة عن الشعوب. لكن المؤكد أن الجزائر تقف اليوم أمام لحظة مفصلية، قد تكون لحظة صمت قبل العاصفة، أو لحظة استعداد قبل الانفجار، أو لحظة وعي شعبي يتقدم ببطء نحو نقطة اللاعودة.
وإذا ما عادت موجة يتنحاو قاع، فإنها لن تكون مجرد احتجاج شعبي، بل ستكون إعادة كتابة لمستقبل الجزائر كلها، لأن الشعوب حين تستيقظ لا تعود إلى النوم بسهولة، ولأن الأنظمة حين تبالغ في الثقة بقوتها تكون أقرب إلى السقوط مما تتوقع.
والسؤال الأخير الذي يبقى مفتوحا: هل يستطيع النظام العسكري أن يوقف موجة جيل تتنحاو كاع إذا انطلقت؟ أم أن الشعار الذي حاول إخماده سيدخل التاريخ مرة أخرى، لا كشعار، بل كقدر سياسي ينتظر من يؤمن به؟
كاتب وأكاديمي مغربي



