28 عمالة و2018 دوارا في مواجهة البرد.. أرقام التعبئة تكشف حجم التدخل وتعيد طرح سؤال الهشاشة المجالية في مغرب المرتفعات
منذ منتصف دجنبر الجاري، ومع اشتداد البرودة وتزايد مخاطر التساقطات الثلجية على المرتفعات، أعلنت وزارة الداخلية عن تفعيل جهاز تدخل "واسع النطاق" لمواجهة موجة برد قوية تطال "مناطق جبلية وقروية شاسعة"، سيّما وأن موجات البرد التي تشهدها المملكة باتت اختبارا عمليا لقدرة المسؤولين على الوصول إلى هوامشها الجبلية قبل أن يتحول الصقيع إلى عزلة قاتلة.
وفق المعطيات الرسمية التي أوردتها وزارة الداخلية، يشمل هذا الجهاز 28 عمالة وإقليما، ويمتد على 243 جماعة، ويستهدف 2.018 محلا/منطقة ودوارا، وهي أرقام تعطي فكرة دقيقة عن اتساع الرقعة الجغرافية التي يُخشى أن تقطعها الثلوج أو يشلّها البرد، خصوصا حين تكون الخدمات الأساسية رهينة طريق واحدة أو مسلك جبلي ضيق
ولا تُقرأ هذه الخريطة بمعزل عن "جغرافيا الارتفاع" التي تحكم قسوة الشتاء في المغرب، فحسب ما ورد في المعطيات نفسها، تقع 1.482 منطقة أي أكثر من 73% من مجموع المناطق المعنيةعلى ارتفاعات تتراوح بين 1.500 و2.499 متر، بينما توجد 29 منطقة أخرى على ارتفاعات تفوق 2.500 متر، ما يجعلها الأكثر تعرضا لدرجات الحرارة القصوى وتساقط الثلوج وما يرافق ذلك من احتمالات الانقطاع عن الطرق والتموين والخدمات الصحية.
في قلب هذا التدبير، تراهن السلطات على منطق "الاستباق الاجتماعي" عبر استهداف الفئات الأكثر هشاشة، ليس فقط لأن البرد يضاعف المخاطر الصحية بل لأن الهشاشة ذاتها الفقر الطاقي، هشاشة السكن، وبعد المراكز الصحية تجعل من موجة البرد عاملَ تسريعٍ للأزمات الصغيرة التي لا تُرى في المدن.
لهذا، تقول السلطات إنها تتابع “بشكل خاص” الفئات الأكثر عرضة أي حوالي 665 شخصا بدون مأوى، و2.790 امرأة حاملا، و18.722 شخصا مسنا جرى تحديدهم ضمن الفئات ذات الأولوية في العملية الشتوية وتؤكد المقاربة المعلنة أن الهدف هو الحد من المخاطر الصحية المرتبطة بالبرد، خاصة في المناطق المعزولة أو صعبة الولوج.
لكن الأرقام لا تظل اجتماعية فقط، فهي لوجستية أيضا، لأن شتاء الجبال يُقاس غالبا بقدرة الدولة على توفير الدفء قبل أن تتجمد الحياة اليومية وعلى هذا الأساس، يتضمن البرنامج توزيع 4.540 طنا من حطب التدفئة، إلى جانب 10.421 فرنا محسنا، بتنسيق مع الوكالة الوطنية للمياه والغابات وقطاعات وزارية من بينها التربية الوطنية والصحة.
وفي بلدٍ قد يحسم فيه إغلاق محور طرقي مصير دوارٍ بكامله، تتصدر إزالة الثلوج واجهة التدخل فقد جرى، بحسب المعطيات نفسها، تعبئة 1.024 آلية لإزالة الثلوج بتنسيق مع وزارة التجهيز والماء، وتم "وضعها مسبقا" على المقاطع الطرقية الأكثر تعرضا للتساقطات بهدف ضمان تدخل سريع وتفادي عزل الساكنة وهنا يصبح التدبير التقني مكونا من مكونات الحماية الاجتماعية استمرار الطريق يعني استمرار التموين، وإمكانية الوصول إلى الإسعاف، وتفادي الانقطاع الطويل الذي يضاعف الهشاشة.
وإلى جانب ما هو ميداني، تظهر مؤشرات على تنظيمٍ مركزي لليقظة والمتابعة خلال موسم 2025–2026، إذ تحدثت مصادر في الوزارة الوصية لـ "الصحيفة" عن تفعيل "مركز قيادة ويقظة" على مستوى وزارة الداخلية، وإحداث/تفعيل لجان إقليمية لليقظة والتتبع في إطار "الخطة الوطنية لمواجهة آثار موجات البرد" برسم الموسم الشتوي 2025–2026وهو تفصيل يضيء زاوية أخرى من المشهد هي أن الدولة لا تتحرك فقط عبر القوافل والآليات، بل عبر منظومة إنذار وتنسيق يفترض أن تقلص زمن الاستجابة وأن تُحسن توجيه الموارد حين يصبح الطقس أسرع من الإدارة.
ومع ذلك، فإن الرسالة التي تُقرأ بين سطور هذه التعبئة لا تتعلق فقط بحجم الوسائل بل بطبيعة الإشكال الذي يتكرر كل سنة في أن كل موجة برد تكشف بالقدر نفسه قوة التدخل حين يشتد الخطر، وحدود التنمية حين تُترك بعض المجالات في تماس مباشر مع الطبيعة دون حماية بنيوية كافية ولهذا تصوغ السلطات هدفها بضمان استمرارية الخدمات الأساسية، والحفاظ على قابلية الطرق للاستعمال، وتعزيز حماية الساكنةفي سياق ظروف جوية "صعبة بشكل خاص" بعدد من مناطق المملكة.
تلك هي الصورة كما تقدمها الأرقام الرسمية، أي 28 عمالة وإقليما، 243 جماعة2.018 دوارا/منطقة، أغلبها فوق 1.500 متر، وفئات هشة محصاة بالاسم والعدد ودفء يُوزع بالأطنان وثلوج تُواجه بأكثر من ألف آلية لكنها أيضا صورة بلدٍ يقترب فيه الشتاء من السياسة العامة إما أن يُدار كطارئٍ موسمي متكرر أو كمعطى بنيوي يتطلب إلى جانب التدخل، إعادة التفكير في السكن القروي، والولوج للخدمات الصحية، وربط المناطق المعزولة، وحماية الفئات التي لا تملك ترف الانتظار حتى يذوب الثلج.
وفي هذا الإطار، يرى خبير التنمية المجالية والحكامة الترابية عصام بيزريكن أن "موجة البرد لا تفضح قساوة الطقس بقدر ما تفضح هشاشة الاستباقية في الهامش حين تُقطع محاور حيوية مثل الطريق الجهوية 317 الرابطة بين تنغير وأزيلال على مستوى تيزي ن آيت أحمد، فهذا يعني عمليا أن قرى بكاملها تُدار بمنطق الانتظار لا بمنطق الحق في الولوج".
وأوضح الخبير في حديثه لـ "الصحيفة" أنه في آيت بوكماز وزاوية أحنصال وأنركي (إقليم أزيلال)، وفي الدوائر الجبلية المتاخمة لمرتفعات الأطلس يتكرر السيناريو نفسه الثلج يغلق الطريق، ثم يبدأ العدّ العكسي للخدمات التموين، التمدرس، الإسعاف وتتحول "التعبئة" إلى سباق متأخر مع التضاريس".
وشدد بيزريكن بحدة، على أنه إذا كان كل شتاء يحتاج خطة طوارئ، فهذا اعتراف ضمني بأن الاستثمار العمومي لم يُحوّل العزلة إلى استثناء بل أبقاها قاعدة، منبها إلى أن "المطلوب ليس تدبير موجة برد، بل إنهاء سياسة تدبير المغرب غير المتكافئ بين مركز دافئ وهامش يُدفّأ بالإغاثة".




