48 عاما على ميلاد البوليساريو.. جبهةٌ بحثت عن حضن المغرب ثم حملت السلاح ضده لتنتهي في جيب الجزائر

 48 عاما على ميلاد البوليساريو.. جبهةٌ بحثت عن حضن المغرب ثم حملت السلاح ضده لتنتهي في جيب الجزائر
الصحيفة – حمزة المتيوي
الثلاثاء 11 ماي 2021 - 14:48

مَرّت يوم أمس الاثنين 10 ماي 2021، 48 سنة بالتمام والكمال على إعلان تأسيس "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" المعروفة اختصارا بجبهة "البوليساريو"، وهي ذكرى احتفت بها الجبهة هذه السنة بشكل "محتشم" حتى عبر وسائل الإعلام الجزائرية، وهو أمر فرضته التطورات التي تعرفها قضية الصحراء منذ العام الماضي، والتي نتجت عنها خسائر سياسية وميدانية وأخلاقية متتالية تكبدتها الجبهة، لكنها لم تستطع بعد حسم المسألة بشكل نهائي.

وباقتراب الجبهة أكثر من إتمام نصف قرن من الوجود، لا زال حلم إقامة "الدولة الصحراوية" ماضيا في التلاشي على أرض الواقع، ولا زال آلاف الصحراويين الموالين لها مجبرين على التطبيع مع حياة الخيام في تندوف فوق الأراضي الجزائرية، كما لا يزال نزاع الصحراء مستمرا في التمدد عبر الزمن وسط عجز إقليمي ودولي عن إيجاد صيغة الحل النهائي الذي يجب أن يكون مرضيا للمغرب والجزائر قبل "البوليساريو"، الجبهة التي كادت أن تتأسس من الرباط قبل أن تتحول إلى عدوها الأول.

البداية.. البحث عن حضن المغرب

بدأت الإرهاصات الأولى لتأسيس جبهة "البوليساريو" منذ 1970، مع ارتفاع حدة الاحتجاجات الرافضة للوجود الاستعماري الإسباني في الأقاليم الجنوبية، والتي ووجهت بعنف شديد من طرف الجيش الإسباني وخاصة في مدينة العيون، وعندها صارت تتبلور في أذهان شبابٍ صحراويين فكرة إنشاء تنظيم ثوري مسلح يُخرج إسبانيا بالقوة من المنطقة، لكن المثير هو أن تنزيل هذه الفكرة عمليا على أرض الواقع كاد أن يكون في العاصمة المغربية الرباط.

وقاد طالبان صحراويان يدرسان في جامعة محمد الخامس بالرباط، مشروع تأسيس هذه الجبهة، ويتعلق الأمر بالوالي مصطفى السيد ومحمد عبد العزيز، ففي سنة 1972 استغل السيد، وهو ابن 24 عاما فقط، وجوده في العاصمة لطرق باب الأحزاب السياسية المغربية ووزارة الداخلية في لإقناعها باحتضان الفكرة وتوفير التأطير والتمويل والتسليح للجبهة الوليدة، لكن السلطات والأحزاب تعاملت معه بكثير من الاستهتار بل والرفض.

وفي شهادته على هذه المرحلة، يقول المحجوب السالك، وهو أحد مؤسسي الجبهة والذي سيؤسس فيما بعد حركة "خط الشهيد" المعارضة لقياداتها، (يقول) إن "تأسيس البوليساريو كان نتاج أخطاء فادحة للنظام المغربي والأحزاب المغربية"، مبرزا أن الزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد والزعيم الشيوعي علي يعتة تعاملا "باحتقار" مع الشباب الصحراويين الذين عرضوا عليهما الفكرة، في حين اقترح عليهم الزعيم الاستقلالي علال الفاسي "التفاوض باسمهم" على أن يتولوا هم مهمة "الكفاح"، أما السلطات المغربية فواجهتهم بالاعتقال، معلقا "لو كانت الأحزاب والسلطات المغربية ساعدتنا ساعتها لاتخذت الأمور منحى آخر".

إلى ليبيا والجزائر

لكن الموقف المغربي السلبي من لدن السلطات والقوى الحزبية تجاه فكرة تأسيس الجبهة، لم يكن محبطا لحاملي الفكرة الذين تمكنوا من ذلك فعليا في الزويرات بموريتانيا يوم 10 ماي 1973، غير أنهم لن يوجهوا بنادقهم فقط للاستعمار الإسباني بل أيضا للمغرب الذي سيعتبرونه "محتلا"، خاصة بعدما دعمهم العقيد الليبي الراحل معمر القذافي ووفر لهم المال والسلاح مقترحا عليهم أن يتحولوا لبؤرة ثورية في المنطقة المغاربية تستهدف أيضا النظام المغربي المعاكس له إيديولوجيًا.

وستزيد حدة عداء "البوليساريو" للمغرب بعد أن احتضنتهم أيضا الجزائر التي لم تنس هزائمها العسكرية أمام المغرب، والتي كانت تبحث عن انتقام يؤكده الضابط الجزائري السابق أنور مالك، الذي يقول في تصريحات نقلتها شبكة "بي بي سي" البريطانية إن الدعم الجزائري لا يتعلق بـ"عدالة القضية"، ولكن لأن الجزائر "وجدت فرصة لتصفية حسابات قديمة ومتجددة مع المغرب"، بالإضافة إلى "حرب الزعامة على المغرب العربي".

وباجتماع كل تلك العوامل، ستنطلق المواجهة المباشرة مع المغرب سريعا، وتحديدا في منتصف السبعينات، ففي 1975 ستصل الرباط ومدريد إلى اتفاق حول الصحراء سيُمكن المغرب من ضم ثلثيها إلى أراضيه بعد "المسيرة الخضراء" في نونبر من العام نفسه، بينما ستضُم موريتانيا الثلث الباقي، وسترد "البوليساريو" بإعلان تأسيس "الجمهورية الصحراوية" من تندوف في 27 فبراير 1976، لتتحول الصحراء إلى ساحة حرب طويلة.

صوت الرصاص في الصحراء

في دجنبر من سنة 1975 بدأت "البوليساريو" حربها المباشرة مع المغرب وبالموازاة مع ذلك أطلق أيضا عملياتها جنوبا ضد موريتانيا، هذه الأخيرة التي لم تستطع الصمود طويلا أمام جبهة مكنتها الأموال الليبية من أسلحة قادمة من الاتحاد السوفياتي وكوبا، حتى أنها في 1978 وصلت إلى العاصمة نواكشوط نفسها وقصفت القصر الرئاسي، وكان ذلك سببا مباشرا في الانقلاب على الرئيس المؤسس للدولة، المختار ولد داده، ثم في استقالته خلفه المصطفى ولد محمد السالك، وفي غشت من سنة 1979 وقعت موريتانيا معاهدة مع البوليساريو تنسحب بموجبها من إقليم وادي الذهب وتعترف بـ"الجمهورية الصحراوية".

لكن الوضع كان مختلفا مع المغرب، ففي البداية عانت قواته المسلحة وحتى المدنيون المجاورون لحدود منطقة الصحراء من نهج حرب العصابات الذي لجأت إليه الجبهة، بالإضافة إلى الدور الميداني الذي لعبته الجزائر من خلال مشاركة جيشها مباشرة في المعارك، والذي انكشف بالملموس في يناير من سنة 1976 حين نجح الكولونيل أحمد الدليمي في تحقيق انتصار كبير في معركة أمغالا الأولى، غير أن المغرب، وبعد ضمنه لإقليم وادي الذهب في 1979، سيلجأ تدريجيا، وبإشراف من الدليمي نفسه، للسيطرة على المنطقة بطريقة لم تكن "البوليساريو" تتوقعها.

فمع بداية الثمانينات سيشرع الجيش المغربي في بناء جدار رملي في الشمال الغربي لمنطقة الصحراء يشمل ما كان يسمى بـ"الثالوث النافع" المكون من مدن العيون والسمارة وبوجدور، ويضمن منطقة بوكراع الغنية بالفوسفات، وهو الجدار الذي سينتهي بناؤه في يونيو من سنة 1982 لتظهر نتائجه الأمنية سريعا بعدما عجز مسلحو الجبهة عن اختراقه، ما دفع المغرب إلى توسيعه تدريجيا عبر 5 مراحل أخرى انتهت آخرها في أبريل من سنة 1987 وكان المغرب حينها قد تمكن من ضم حوالي 80 في المائة من أراضي الصحراء التي أصبحت عصية على مسلحين غير قادرين على خوض حرب نظامية.

بداية النهاية

وكان الانتهاء من الجدار الأمني، عمليا، نهاية الحرب بين المغرب وجبهة البوليساريو، لكن انضافت له عوامل أخرى مؤثرة أبرزها توقف ليبيا عن دعم الجبهة ابتداء من 1984 ووجود مشاكل داخلية في الجزائر ستتمخض عنه "العشرية السوداء" التي ستُفتح صفحاتها الأولى سنة 1991، العام نفسه الذي ستُوقع فيه المملكة والجبهة اتفاق وقف إطلاق النار تحت رعاية الأمم المتحدة، وتدريجيا سيُقبر المغرب أيضا، من الناحية العملية مقترح "استفتاء تقرير المصير"، لدرجة أن المبعوث الأممي السابق للصحراء بيتر فان فالسوم سيصفه سنة 2008 بالطرح الذي "تجاوزه الزمن"، بل إنه وصف "استقلال" الصحراء بـ"الخيار غير الواقعي".

وتحولت "البوليساريو" بعدها إلى ورقة ضغط في يد الجزائر وأصبح الصراع حول الصحراء "عملة مقايضة" على حد وصف مؤسس الجبهة والقيادي السابق فيها المحجوب السالك، وهو ما برز بالملموس سنة 2002 حين طرح الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة ما وصفه بـ"الحل الرابع" القاضي بتقسيم الصحراء بحيث يحصل المغرب على ثلث مساحتها وتؤسس "الجمهورية الصحراوية" على الثلل الباقي، وهو ما حظي بموافقة جزائرية عززت اتهامات المغرب لها بكونها الطرف الحقيقي في الصراع وبأن لها أطماعا إقليمية في المنطقة.

وأضحى صوت الجبهة ينخفض تدريجيا مع مرور الزمن، لدرجة أن المغرب الذي وافق على الجلوس معها إلى طاولة المفاوضات الرباعية إلى جانب الجزائر وموريتانيا في "مانهاست" الأمريكية انطلاقا من يونيو 2007، بعد شهرين فقط من تقديمه مقترح الحكم الذاتي الموسع كحل نهائي للصراع، صار يرفض في 2021 أن يكرر الأمر، حيث صرح وزير خارجيته ناصر بوريطة أن المفاوضات لن تكون إلا مع الجزائر باعتبارها "الطرف الحقيقي" في الصراع.

الموت السريري

وبعد 48 عاما من الوجود، يبدو أن "البوليساريو" صارت عاجزة عن إحداث التأثير الذي تريده في المنطقة، بل صارت تُتَّهم بأن منطقها "متجاوزٌ" حتى داخل المخيمات التي برزت فيها سنة 2010 حركة "خط الشهيد" المعارضة لقيادات الجبهة، والتي لوحت بالدخول في مفاوضات مباشرة مع المغرب والقبول بمقترح الحكم الذاتي على اعتبار أنه "أفضل من العيش تحت الخيام"، وهو الأمر الذي لم يكن سوى نقطة البداية لمعارضة داخلية مستمرة إلى الآن في "الرابوني"، تطورت إلى ملاحقات قضائية لزعيمها الحالي، إبراهيم غالي، من لدن منشقين عن الجبهة تعرضوا للاعتقال والتعذيب، وذلك خلال دخوله للعلاج في إسبانيا بوثيقة هوية جزائرية مزورة.

ولا يبدو اتهام الجبهة بـ"الشيخوخة" أمرا مبالغا فيه، فقد أقامت هي الدليل عليه سنة 2020 حين شرعت في التلويح بالعودة إلى "البندقية" متجاهلة تغير المعادلات الأمنية والعسكرية والجيوسياسية واتجهت صوب معبر "الكركارات" لإغلاقه، لينتهي بها المطاف وقد خسرت المنفذ البحري الوحيد المتاح لها صوب المحيط الأطلسي بعدما أدخل المغرب تعديلات في الجدار العازل ضمت أجزاء إضافية من المنطقة لسلطته المباشرة، وتلا ذلك زخم دبلوماسي انتهى باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب على المنطقة في دجنبر من العام نفسه.

وتدريجيا، صارت نفوذ "البوليساريو" ينكمش حتى في مناطق دعمها التقليدية على غرار القارة الإفريقية وأمريكا اللاتينة، حتى غدت 85 في المائة من دول العالم لا تعترف بشيء اسمه "الجمهورية الصحراوية"، مقابل اعتراف صريح ومتزايد بالسيادة المغربية مدعوم بفتح تمثيليات قنصلية في مدينتي الداخلة والعيون خاصة من لدن الدول العربية والإفريقية، واعتراف ضمني بذلك، سياسي أحيانا، على غرار فرنسا التي لا تخفي اقتناعها بمقترح الحكم الذاتي كحل نهائي للقضية، واقتصادي أحيانا أخرى، على غرار المملكة المتحدة التي شرعت في التخطيط لاستثمارات استراتيجية في المنطقة.

هل الدولة الجزائرية عبارة عن "هجرة غير شرعية في التاريخ"؟

في حوار أجريناه في "الصحيفة" شهر غشت من سنة 2021 مع نور الدين بوكروح الذي يعتبر من السياسيين والمثقفين القلائل في الجزائر الذين ينتقدون "نظام الحكم" في البلاد المبني على ...