لهيب الصحراء - الرحلة إلى تيندوف [ 6 ]

 لهيب الصحراء - الرحلة إلى تيندوف [ 6 ]
محمد الساحلي
الثلاثاء 28 مارس 2023 - 18:39

واية لهيب الصحراء هي حكاية عن مقاتل داعشي يراجع أفكاره خلال عملية بين ليبيا والمغرب حين يكتشف فساد أفكار داعش، وتحكم بعض الأنظمة العربية فيها. خلال رحلة أبي حفص عبر صحراء ليبيا، متوقفا في مخيمات تيندوف في الجزائر، يكتشف العلاقات السرية بين أمير داعش في ليبيا والمخابرات الجزائرية. يجد أبو حفص نفسه في مواجهة التناقضات التي يرزح تحتها الفكر الداعشي، وكيف أن القادة يصطادون الشباب مستغلين لحظات ضعفهم الإنسانية لملئ رؤوسهم بأفكار متطرفة وفاسدة. حين يقرر أبو حفص التخلي عن العملية والهروب من سجن أفكار داعش، يجد أمامه ضابطا من المخابرات الجزائرية لهما معا تاريخ مشترك، وعندها تبدأ المواجهة، ويشتعل اللهيب في الصحراء.

[ 6 ]

جاء الفجر محمولا على عذوبة آذان الأخ يونس، فبدأ الرجال يستيقظون واحدا تلو الآخر.

اندهش أبو حفص من حيوية الأخ يونس المعتادة، في حين أنه عاد من موته الصغير، متوعكا خائر القوى، مفكك الأوصال، خارجا من جحيم الكوابيس الضبابية التي لا يذكر منها سوى صراخ الأطفال وأصوات ارتطام الأجسام الهشة بالأرض.

غريب أمر هذا الشاب يونس، يفكر أبو حفص، يبدأ الليلة بحكاية تشظي الروح ونشيج يفتت القلب، ثم يستيقظ فجرا مفعما بكل حيوية وحماس الدنيا.

رمى جانبا التفكير في غموض شخصية الأخ يونس المتقلبة، وقام يتوضأ ليصلي بالرجال، ثم خرجوا بعد ذلك إلى هواء صباح الصحراء المنعش للقيام بحصة الجري وحركات تقوية الذراعين والساقين.

جاء الفطور، بعض من التمر ولبن الناقة وقهوة منعشة الرائحة ما كانوا ليتوقعوا وجودها في هذه الثكنة العسكرية الصغيرة المختفية في أعماق الصحراء الجزائرية.

كان الفطور شهيا وأحس أبو حفص ببعض النشاط يعود إليه. كان قد وجه، بعد الصلاة، إلى الأخ يونس نظرة أبوية مع ابتسامة مشفقة فبادله الأخ يونس ابتسامة مشرقة تزين وجها يفور حبورا، وطيلة الفطور كان الأخ يونس يشارك الرجال مزاحهم، كأنه شخص آخر غير الذي لطم أمس أبا حفص بشجن تلك الحكاية.

سمع الرجال صوت طائرة مروحية ميز فيها أبو حفص أزيز الهليكوبتر الروسية[1] مي-8، وبمجرد ما نزلت المروحية وصمت أزيز مراوحها جاء الملازم يخبر أبا حفص أن المروحية ستنطلق خلال ربع ساعة، لنقلهم إلى أبي مصعب.

قام الرجال بترتيب الأسرة وارتدو مجددا العباءات الصحراوية التي حصلوا عليها أمس من راعي الإبل، وانطلقوا خلف أبي حفص للصعود على متن الوحش الطائر.

لاحظ أبو حفص ارتباك الرجال جميعهم، وترددهم قبل الصعود. لا يعرف إن كان محظوظا، أم العكس، أنه سبق له ركوب مثل هذه المروحية خلال مناورات تدريبية شارك فيها في ريف حماة.

طرد عنه تلك الذكريات التي يريد نسيانها بأي ثمن، وصعد أولا، فتبعه الرجال. كان قد سبقهم للركوب عشر رجال يلبسون لباسا عسكريا ذي ألوان تناسب التمويه في الصحاري، عليه علم مألوف يجمع بين الأسود والأخضر، لم يستطع أبو حفص تذكره، وإن بدا له أنه يشبه العلم الفلسطيني.

تثاءب الوحش وتمطى متهاديا بين اليمين واليسار ثم طار غربا يخرق صمت الصحراء نحو الجنوب.

استند أبو حفص بظهره على جدار المروحية، الذي تغطيه شبكة صلبة، وأرسل نظراته الساهمة في اتجاه الأخ يونس الذي أغمض عينيه وهو يحرك شفتيه بتمتمات خفيفة وسريعة، ثم مرر نظراته نحو باقي الرجال يطمئن عليهم، وركز في الأخير نظراته الساهمة على رمال الصحراء الظاهرة من النافذة الصغيرة.

لم يستطع أبو حفص أن يتجاهل حكاية الأخ يونس أمس. لم يحصل بعد على جواب شاف عن سؤاله كيف انظم لتنظيم الدولة الاسلامية، لكن القصة فتحت في صدره شجنه الخاص عن أخته التي زوجها الشيخ الزياني لابنه، ثم اختفت بعد ذلك بفترة قصيرة.

لم يعلم آنذاك سوى أنها رافقت زوجها إلى تركيا، ثم علم لاحقا أنهما انتقلا إلى سوريا وبعد ذلك العراق، قبل أن يصادفهما بعد أربع سنوات في ليبيا، قبيل أيام من انتقاله إلى مخيم التدريب في صحراء فزان.

”أخي أبو حفص.“

جاء النداء من وسط لغط السوق فالتفت أبو حفص ليجد وجها شابا ذي لحية طويلة وشارب حليق. لم يتعرف على صاحب الوجه في البداية قبل أن ينتبه للعينين البنيتين اللماعتين.

”الأخ أحمد الزياني؟“ قال بلسان منعقد دهشةً، فهجم عليه الأخ أحمد يحضنه بعناق قوي.

”يا أهلا بالأخ الكريم. سبحان الله، شعرت أني سألقى حبيبا اليوم.“  قال الأخ أحمد ولم يمهل أبا حفص ردا فأخذه من ذراعه وسحبه معه. ”لن أفلتك اليوم. مرحبًا بك في بيتنا. ستتغذى معنا.“

بدا كأن أبا حفص سيحتج بصوت واهن لكن الأخ أحمد قاطعه قبل ذلك.

”ألم تشتق لأم محمد؟“

”أم محمد؟“ تساءل أبو حفص قبل أن ينتبه للمغزى، فعانق صهره.

”مبروك يا أبو محمد. كم عمره؟“

”ثلاث سنوات. إنه ابننا البكر. لدينا بعده عبد الله، والتوأم خديجة وفاطمة.“

”ما شاء الله، تبارك الله.“

مشيا بضع دقائق خلف السوق تجاه مجموعة من المباني تهدم بعضها واسودت حيطان بعضها وبدا واضحا أن المنطقة عانت منذ فترة غير طويلة قصفا كثيفا.

”وصلنا.“ قالها الأخ أحمد وهو يولج المفتاح في باب مبنى بقي منه طابقين سالمين، في حين يظهر الطابق الثالث مهدما تماما.

”السلام عليكم أم محمد. أحضرت لك مفاجأة.“

قال الأخ أحمد بمرح ودفع أمامه أبا حفص طالبا منه الدخول بصمت.

”وعليكم السلام ورحمة—“

قطعت أم محمد تحيتها بشهقة ووضعت يدها على صدرها متجمدة في مكانها. التمعت دمعة في عينها، واقترب منها أخوها ببطء غير مصدق التغيرات التي طرأت على أخته التي بدت له أنها شاخت قبل الأوان.

ارتمت أم محمد في حضن أخيها واحتضنته باتساع ذراعيها واستكانت برأسها على صدره.

جاءت حمحمة الأخ أحمد فوجد أبو حفص أن أخته انسحبت من حضنه ومسحت بسرعة الدموع الصامتة التي مرت على جلد وجهها المرتخي.

جلس أبو حفص حيث أشار له الأخ أحمد، وسمع صوت الصغير محمد قادما من غرفة أخرى مبتهجا بقدوم والده الذي تلقفه ورفعه من تحت ذراعيه دائرا به دورة كاملة ثم أنزله.

”تعال بني، سلم على خالك.“

مد الصغير يده الدقيقة في اتجاه أبي حفص وقال بلثغة عذبة: ”الثلام عليكم.“

غلبت البسمة أبا حفص ومد أصبعين يستلم كف الصغير محمد، ثم ضحك ورفعه ليجلسه على ركبتيه.

”تعالى إلى خالك يا حبيبي.“

رغم المفاجأة أحس أبو حفص بشعور لذيذ أنه صار خالا. بل خالا لأربعة أطفال دفعة واحدة.

”أين أخوك عبد الله؟“

سأل أبو حفص محمدا فأشار له إلى الغرفة التي خرج منها.

”تفضل أبا حفص. البيت بيتك. “

قال الأخ أحمد ردا على استفسار صامت من أبي حفص، فنهض وتبعته أخته واقفة. انتبه هذه المرة للاستدارة الكروية في بطنها، ولم يملك أن يخفي معالم الدهشة المرتسمة على وجهه.

”هذا عبد الله، والرضيعتين خديجة وفاطمة.“

أشارت أم محمد إلى الملائكة النيام، فأحس أبو حفص برعشة طفيفة مرت على ملامح وجهه. احتضن كف أخته وسألها بخفوت.

”كيف حالك؟ كل شيء على ما يرام؟“

استدارت إليه وتوقفت لحظات تتملى في وجهه.

”اشتقت إليك أخي.“

لم تقل أكثر من ذلك، ثم انحنت تعدل الغطاء على الرضيعتين التوأم.

”سأصعد للاطمئنان على الصغيرة عائشة. لن أوصيك على ضيفنا يا أم محمد.“

جاء صوت الأخ أحمد من خلفهما وهو يصعد درجات السلم إلى الطابق الثاني.

نظر أبو حفص مستفسرا إلى أخته. رفعت كتفيها مع تنهيدة وأدتها قبل أن تتم.

”ابنته من زوجته الثانية.“

انقبض قلب أبي حفص وعاد للجلوس في حين دخلت أخته إلى المطبخ قبل أن يحترق الطعام.

بدا له البيت متقشفا، متواضعا شبه خال من الأثاث، لا يكاد يختلف عن باقي بيوت الإخوة الذين زارهم من قبل. لا شك أن مستوى دخل الأخ أحمد متواضع، وهذا متوقع في هذه الظروف. لكنه لم يستسغ فكرة أن لأخته ضرة، في مثل هذه الأوقات العصيبة.

جاءت حكاية الأخ يونس لتذكر أبا حفص بالحزن الإضافي الذي حمله معه إلى مخيم التدريب. بدا له تعامل الأخ أحمد طيبا مع أخته، لكن خبر زوجته الثانية زاد قلبه انقباضا بعد الانقباض الأول الذي حصل له حين رأى أخته حاملا مجددا، ورضيعيها التوأم لم يكملا حتى عاما واحدا بعد. لم يستطع أبو حفص سوى أن يشعر بالشفقة، الممزوجة بالغضب، وتعكر مزاجه تماما طيلة جلسة الغذاء تلك، ثم قبل أن يغادر ذلك اليوم، أخرج من جيبه كل المال الذي كان معه ووضعه في يد أخته، ثم قبل جبينها وغادر غير عالم إن كان سيراها مجددا أم لا. انتبه أبو حفص من غفوته حين بدأت معالم الصحراء تتغير، ورأى عبر الكوة الزجاجية الصغيرة مجموعة من المباني على امتداد البصر ذات طابق واحد، طينية اللون ومتقاربة حد التلاصق. اعتدل في جلسته بعد أن تذكر دروس الجغرافيا والتاريخ. إنها مخيمات تندوف لا شك. فكر في ذلك وتذكر أخيرا العلم الذي يزين صدور الجنود المرافقين في المروحية. علم الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، أو الاختصار الذي كان يتردد كثيرا في دروس الباكالوريا، جبهة البوليساريو[2].


[1] اسمها الرسمي Mil Mi-8، وهي مروحية نقل روسية تعتبر الأكثر انتاجا على مستوى العالم، دخلت الخدمة سنة 1967، وهي مخصصة بشكل أساسي لنقل الجنود. تصل تكلفتها إلى 9 ملايين دولار.

[2] منظمة سياسية وعسكرية مدعومة ماليا وعسكريا من الجزائر، تأسست سنة 1973 لتحرير الصحراء الغربية مما تعتبره استعمارا مغربيا. لا تعترف الأمم المتحدة بسيادة أي طرف على المنطقة المتنازع عنها، كما لا تعترف بالجمهورية الصحراوية كدولة عضو.

آن الأوان للمغرب أن يدير ظهره كليا للجزائر!

لا يبدو أن علاقة المغرب مع الجزائر ستتحسن على الأقل خلال عِقدين إلى ثلاثة عقود مُقبلة. فحتى لو غادر "عواجز العسكر" ممن يتحكمون بالسلطة في الجزائر، فهناك جيل صاعد بكامله، ...