لهيب الصحراء - الممرضة [ 14 ]

 لهيب الصحراء - الممرضة [ 14 ]
محمد الساحلي
الأربعاء 5 أبريل 2023 - 19:44

رواية لهيب الصحراء هي حكاية عن مقاتل داعشي يراجع أفكاره خلال عملية بين ليبيا والمغرب حين يكتشف فساد أفكار داعش، وتحكم بعض الأنظمة العربية فيها. خلال رحلة أبي حفص عبر صحراء ليبيا، متوقفا في مخيمات تيندوف في الجزائر، يكتشف العلاقات السرية بين أمير داعش في ليبيا والمخابرات الجزائرية. يجد أبو حفص نفسه في مواجهة التناقضات التي يرزح تحتها الفكر الداعشي، وكيف أن القادة يصطادون الشباب مستغلين لحظات ضعفهم الإنسانية لملئ رؤوسهم بأفكار متطرفة وفاسدة. حين يقرر أبو حفص التخلي عن العملية والهروب من سجن أفكار داعش، يجد أمامه ضابطا من المخابرات الجزائرية لهما معا تاريخ مشترك، وعندها تبدأ المواجهة، ويشتعل اللهيب في الصحراء.

[ 14 ]

قبل ذلك ببضع ساعات استيقظ أبو حفص فجرا، وأحس بالفراغ مفتقدا صوت آذان الأخ يونس.

حاول النهوض من الفراش فأحس بالدوار، وعاد مجددا للاستلقاء. ما زال يشعر بالتعب والانهاك من أيام الحرمان في الغرفة البيضاء.

رأى رفاقه يستيقظون واحدا بعد الآخر، ثم يتوجهون للوضوء والصلاة. لم يجد في جسده ذرة من الاهتمام للقيام والصلاة معهم، ولم يحاول أيا منهم الحديث معه منذ عاد الليلة الماضية. فقط سألهم عن الأخ يونس ولم يجد لديهم جوابا شافيا.

قُدم له أمس قبل مغادرة مبنى التعذيب عشاء دسما التهمه جوعا دون اشتهاء، ثم قضى الليلة غارقا في الكوابيس. قيل له أن يذهب صباحا إلى المبنى اثنان لمراجعة الطبيب والحصول على الكمية المطلوبة من أقراص الفيتامينات وبعض المنشطات لاستعادة قوته قبل الانطلاق في اليوم التالي نحو المغرب.

قام من الفراش وذهب إلى الحمام متثاقلا، ووضع رأسه تحت المياه الباردة حتى خف الصداع، ثم جفف وجهه وخرج متوجها إلى المبنى اثنان.

كانت خطواته بطيئة رتيبة وكان وعيه يرتحل في عوالم أخرى. كان يمشي كالمسرنم.

وصل إلى المبنى اثنان، دفع الباب وولج متقدما عبر الممر الضيق إلى أول غرفة.

كان ما زال شاردا في عوالمه الداخلية حين دفع باب الغرفة. حاسة البصر كانت أول الحواس التي خرجت من حالة الشرود، فنقلت له صورة مساعد الجزار يحتضن بعنف امرأة تلبس لباس الممرضات، وهي تحاول عبثا الانفلات من بين ذراعيه. ثم اشتغلت حاسة سمعه ووصله صوت اللهاث العنيف لمساعد الجزار والبكاء الخافت للممرضة مع كلمات استعطافها، بالإسبانية، للوحش الذي يريد التهامها.

تجمد أبو حفص في مكانه، وتغطت عيناه بسحابة ضبابية.

حرك أبو حفص يده في الهواء ليبعد عن عينيه غبار الجدار المتهدم وسعل بقوة وهو يلحق بباقي المقاتلين. كانت المهمة بسيطة وكانت مشاركته شكلية على سبيل المجاملة. كان المطلوب منهم اقتحام مبنى في ضواحي دمشق كان يختبئ فيه أحد أعتى ضباط المخابرات السورية، أحد أبرز المطلوبين من القيادة في داعش، حيا أو ميتا.

لم يجدوا الضابط المطلوب. لا أحد من الرجال، إلا امرأة قد تكون زوجته وشابة يافعة قد تكون ابنته.

ارتفعت ضحكات الرجال ولم يفهم أبو حفص سر القرعة التي استقسموا حتى رأى رجلين يكبلان المرأة ورجلا يقفز إلى الشابة ويمزق قميصها.

صرخ أبو حفص مستهجنا ومد يده يمسك بذراع الرجل المخمور تماما في هيجانه. حاول أبو حفص بجهد أن يبعده فكانت النتيجة لكمة عاصفة انطلقت من قبضة الرجل إلى فك أبي حفص.

انفلتت أنة خافتة من شفتي أبي حفص فانتبه إليه مساعد الجزار الذي استدار مندهشا.

”ماذا تفعل هنا؟“

رفع أبو حفص ذراعيه وتحشرج صوته.

”لا شـ.. يء. لـ..م أقصد التواجد هنا. أبـ..حث عن الطبيب.“

رأى أبو حفص مساعد الجزار قادما في اتجاهه يريد دفعه، فتحرك بعفوية جهة اليسار فتعثر مساعد الجزار وصدم رأسه في إطار الباب.

ارتعب أبو حفص وتمتم معتذرا، لكن الثور نفث أنفاسه بغضب ودفع أبا حفص بقوة على صدره، ثم أخرج مسدسه.

لم يعرف أبو حفص إن كان مساعد الجزار فقد أعصابه لدرجة استخدامه المسدس دون أوامر رئيسه، لكن غريزة البقاء لديه لم تترك له مهلة للتفكير فتحركت ذراعه ولطمت يده المسدس، فسقط من يد الثور الذي ازداد هياجا والتحم في عراك مع أبي حفص وسقطا معا أرضا.

مد مساعد الجزار يده والتقط المسدس وضغط به على صدر أبي حفص.

لم يكن أبو حفص يدرك أنه، رغم كل ما عانه، ما زال يريد الحياة وبأن غريزة البقاء لديه ستدفعه ليحرك يده بسرعة ويلوي كف الثور فتتوجه فوهة المسدس نحو قلب مساعد الجزار الذي سيتألم من تلك الحركة وستضغط أصابعه لا إراديا على الزناد فتنطلق الرصاصة التي ستنهي حياته.

دوى صوت الرصاصة عاليا فانتفض أبو حفص ودفع عنه الجثة وارتد واقفا، وتجمد ناظرا إلى الدماء التي تسيل على الأرضية.

أحس بالممرضة تقترب وبصوتها الهامس، يدخل أذنيه كأشواك من الصقيع.

”هل.. مـ..ات؟“

نظر إليها أبو حفص ورأى وجهها لأول مرة.

”إيمان؟“

أحس بالسخافة من نفسه حين نطق الاسم، فالشبه كبير بين هذه الممرضة وحبيبته التي تخلى عنها، لكن الفرق واضح أيضا.

استعاد رباطة جأشه بسرعة ودفع الممرضة برفق بكفه على خصرها.

”ماذا تنتظرين. اخرجي قبل أن يحضر الآخرون. لا شك أنهم سمعوا صوت الرصاصة.“

”وأنت؟“

يعرف أبو حفص أن الموقف غير مناسب لكنه لم يستطع منع نفسه من الاعجاب بهاتين العينين النجلاءين.

”أنت أولا. اذهبي.“

اندفعت الممرضة إلى الباب ثم توقفت واستدارت إلى أبي حفص.

”شكرًا،“ قالت بالإسبانية ثم صمتت ونظرت إلى عينيه مليا.

رأى أبو حفص عينيها تهيمان وحدس صراع الأفكار الذي يدور في عقلها، ثم رآها بعد وقت وجيز تعتدل ورأى اللمعة في عينيها، ثم أحنت رأسها بخفر وابتسمت قبل أن تكمل بعربية قادمة من عمق الصحراء بعبق اللهجة الحسانية: ”بالمناسبة، اسمي آمنة.“

رد أبو حفص بابتسامة، قبل أن يراها تخرج راكضة، وانحنى يلتقط المسدس ويضعه في حزام سرواله، ثم اندفع مسرعا من الغرفة خارجا من المبنى.

”أبا حفص؟“ وجد أبو حفص نفسه وجها لوجه أمام أحد رجاله، ورأى غير بعيد مجموعة من الرجال قادمين بسرعة، فدفع الرجل الذي أمامه على صدره، واستدار خلف المبنى اثنان وانطلق يجري متوجها نحو المباني السكنية المتلاصقة، وهو يتساءل بتوتر أين يمكنه الاختباء هنا وكيف سيهرب من تندوف.

آن الأوان للمغرب أن يدير ظهره كليا للجزائر!

لا يبدو أن علاقة المغرب مع الجزائر ستتحسن على الأقل خلال عِقدين إلى ثلاثة عقود مُقبلة. فحتى لو غادر "عواجز العسكر" ممن يتحكمون بالسلطة في الجزائر، فهناك جيل صاعد بكامله، ...