بقيمة 14 مليار دولار.. أكبر تحالف اقتصادي بين الرباط وأبوظبي لتطوير بنى تحتية للطاقات المتجددة وتحلية المياه ونقل الكهرباء
تمكّن المغرب، من توقيع أكبر استثمار أجنبي مباشر في تاريخه بقيمة تصل إلى 14 مليار دولار، ضمن شراكة ثلاثية جمعت شركة "ناريفا" المغربية، وشركة "طاقة المغرب" التابعة لمجموعة "طاقة" الإماراتية، إلى جانب صندوق محمد السادس للاستثمار، وهي الاتفاقية التاريخية التي لا تمثل مجرد ضخ أموال في الاقتصاد الوطني، بل تشكل رؤية متكاملة للمستقبل الطاقي للمغرب في زمن الاضطراب المناخي، وارتفاع حدة التحديات المرتبطة بشح المياه وتقلبات سوق الطاقة الدولية.
المغرب، الذي يعيش منذ سنوات على وقع إجهاد مائي غير مسبوق، شرع منذ سنوات وبتوجيه ملكي في جعل قضية المياه أولوية استراتيجية، حيث وقع اتفاقية تتضمن إنشاء خمس محطات لتحلية مياه البحر بقدرة إجمالية تصل إلى 900 مليون متر مكعب سنويا، موزعة على عدد من مناطق المملكة.
وأعلن ائتلاف مغربي إماراتي، توقيع اتفاقيات استثمار مع الحكومة المغربية، تقارب قيمتها 14 مليار دولار، لتنفيذ مشاريع عدة، تشمل خصوصا البنى التحتية لإنتاج ونقل الكهرباء من مصادر متجددة وتحلية مياه البحر.
ووفق ما ذكره بلاغ مشترك صادر عن الائتلاف، فإن "صندوق محمد السادس للاستثمار، وشركة "طاقة المغرب" التابعة للمجموعة الإماراتية "طاقة" وشركة "ناريفا"، شكلوا ائتلافا لتطوير بنى تحتية جديدة لنقل المياه والكهرباء، بالإضافة إلى إحداث قدرات جديدة لتحلية مياه البحر وإنتاج الكهرباء من مصادر متجددة".
ووقع الائتلاف 3 بروتوكولات اتفاق مع الحكومة المغربية والمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، فيما أوضحت شركة "طاقة المغرب"، في بلاغ منفصل، أن القيمة الإجمالية لهذه المشاريع "تقارب 130 مليار درهم (نحو 14 مليار دولار) في أفق العام 2030"، مشيرة إلى أنها ستتقاسم الملكية بحصة متساوية مع شركة "ناريفا"، بينما تعود ملكية 15% منها لصندوق "محمد السادس للاستثمار" ومؤسسات عمومية مغربية أخرى.
ويعكس هذا المشروع الطموح انتقال المغرب من مقاربة ظرفية تعتمد على السدود والمياه الجوفية، إلى مقاربة استباقية مستدامة تعزز الأمن المائي للمدن الساحلية والداخلية، وتقلص الفوارق المجالية في التزود بالماء، حيث من المرتقب أن تركز هذه المحطات على تقنيات حديثة عالية النجاعة الطاقية، بما في ذلك الربط بالطاقة المتجددة، لضمان استدامة تشغيلها وتقليل الكلفة البيئية والاقتصادية.
وضمن محور الطاقة التقليدية منخفضة الكربون، سيتم بناء محطة جديدة للدورة المركبة (CCGT) قرب مدينة طنجة، بقدرة إنتاجية تصل إلى 1100 ميغاواط، باستخدام الغاز الطبيعي، كما سيجري تأهيل محطة تهدارت الغازية، التي كانت من أولى مشاريع المغرب في مجال إنتاج الكهرباء بالغاز مطلع الألفية.
الرهان هنا مزدوج، ويكمن في ضمان مرونة الشبكة الطاقية في مواجهة الطاقات المتقطعة (كالرياح والشمس)، وتقليل الاعتماد على الفحم الحجري الملوث، بما ينسجم مع التزامات المغرب المناخية في أفق 2030 و2050.
وفي انسجام مع إستراتيجية الانتقال الطاقي، سيجري إطلاق مشروع ضخم لإنتاج الكهرباء من طاقة الرياح في الجنوب المغربي، وهي منطقة تتميز بموارد ريحية استثنائية، أثبتت فعاليتها في مشاريع "طرفاية" و"العيون" السابقة.
ويستهدف المشروع دعم إنتاج الطاقة النظيفة، وتثبيت مكانة المغرب كمنصة إقليمية لتصدير الطاقات المتجددة، خصوصا نحو أوروبا، في ظل الطلب المتزايد على "الهيدروجين الأخضر" والكهرباء النظيفة.
مشروع آخر لا يقل رمزية وعمقًا، يتعلق بـ تنفيذ "الطريق السيار المائي" لربط أحواض سبو وأم الربيع، بنقل ما يقرب من 800 مليون متر مكعب من المياه سنويا.
ويمثل هذا المشروع استكمالًا للمخطط الوطني للماء، إذ يعكس وعيا متقدما بأن الحروب المقبلة ليست فقط طاقية، بل مائية بامتياز، فالنقل الهيكلي للمياه من الشمال إلى الوسط والجنوب يشكّل خطوة جريئة لضمان العدالة المجالية وتجاوز منطق "المغرب النافع" و"غير النافع".
واستراتيجية المغرب لا تتوقف عند إنتاج الكهرباء، بل تشمل أيضا تطوير البنية التحتية لنقلها، وستُشيّد شبكة كهرباء ذات جهد عالٍ (HVDC)، تمتد على 1400 كيلومتر، بقدرة تبلغ 3000 ميغاواط، لربط الجنوب بالوسط والشمال.
وستمكّن هذه الشبكة من نقل فائض الطاقة المتجددة المنتَج في الصحراء نحو المناطق الصناعية والحضرية الكبرى، مما يُجنب هدر الموارد، ويعزز مرونة الشبكة الوطنية ويهيئ الأرضية لتصدير الكهرباء نحو الخارج مستقبلا.
وحسب تقديرات الجهات المعنية، فإن هذه المشاريع الضخمة ستُوفر نحو 25.000 فرصة عمل، منها 10.000 وظيفة دائمة، خصوصا في المناطق التي ستُقام فيها المحطات والمنشآت.
وهذا البُعد الاجتماعي لا يقل أهمية عن الأبعاد الطاقية والمائية، إذ يمثل جزءا من تصور شامل لدمقرطة التنمية وخلق فرص للشباب، وخصوصا في المناطق الجنوبية والشمالية التي تفتقر لمشاريع بهذا الحجم.
ولا يمكن فصل هذه الشراكة العملاقة عن التحولات الجيوسياسية في المنطقة، فدخول "طاقة" الإماراتية في مشاريع بهذا الحجم، وبمساهمة صندوق محمد السادس، يعكس تحالفا استراتيجيا جديدا يرسخ ثقة أبوظبي في استقرار المملكة وجاذبيتها الاستثمارية، كما يعكس رهان المغرب على شركاء خليجيين قادرين على ضخ الاستثمارات في قطاعات حيوية، بعيدًا عن شروط الإقراض الدولي التقليدي.
وهذه الشراكة، لا تقتصر على الاقتصاد فحسب، بل ترسّخ تطابقا في الرؤى السياسية والتنموية بين الرباط وأبوظبي، في زمن تتغير فيه التحالفات وتتسارع فيه رهانات السيادة الطاقية والمائية.
وتوقيع هذه الاتفاقية الضخمة لا يجب أن يُقرأ فقط بلغة الأرقام أو تدفقات رؤوس الأموال، بل بلغة السيادة، ففي زمن اشتدت فيه الأزمات البيئية والطاقية، وجفّت فيه موارد طبيعية كانت تُعد ثابتة لعقود، اختار المغرب أن لا يكون رهينة الظروف، بل أن يبادر، ويستثمر، ويؤسس لنموذج تنموي جديد عنوانه، الاكتفاء الذاتي، والتوازن المجالي، والتحول الأخضر.
ومع هذا المشروع، يُرسّخ المغرب مكانته كفاعل إقليمي صاعد في مجال الاستدامة، ويبرهن أن الشراكات الذكية، عندما تُدار برؤية استراتيجية، يمكن أن تصنع الفارق وتؤمّن الأجيال المقبلة في مواجهة عطش الأرض وتقلبات المناخ.
ويرى الخبير الاستراتيجي في شؤون الطاقة والاستثمار بدولة الإمارات، سعيد النعيمي أن "ما يجري اليوم بين المغرب ودولة الإمارات لا يمكن وصفه فقط بمشروع استثماري ضخم، بل هو نموذج جديد لتحالف اقتصادي ذكي يُراهن على أدوات السيادة المستدامة بدل المعونات أو التمويلات الظرفية.."، موردا أن هذا الاستثمار البالغ 14 مليار دولار "يتقاطع مع تحولات كبرى تشهدها المنطقة والعالم، من جهة، المغرب يواجه تحديات بنيوية في الموارد المائية والطلب الطاقي المتصاعد، ومن جهة أخرى، الإمارات تبحث عن شراكات استراتيجية طويلة الأمد تُمكّن من تصدير خبراتها في الطاقة النظيفة والبنى التحتية المعقدة."
وشدّد الخبير الإماراتي في تصريحه لـ "الصحيفة"، على أن اختيار المغرب لم يكن صدفة، "فالمملكة تمتلك اليوم بنية مؤسساتية مستقرة، ورؤية واضحة في مجال الانتقال الطاقي، كما أن صندوق محمد السادس للاستثمار يوفر مظلة سيادية تحمي رأس المال وتوجّهه نحو أهداف التنمية"، مضيفا: "نحن لا نتحدث هنا عن مشاريع معزولة، بل عن منظومة تكاملية تشمل إنتاج الطاقة، ونقلها، وتحليّة المياه، وإعادة توزيع الثروات المائية، وربط الجهات، وخلق آلاف فرص الشغل."
وزاد المتحدث: "أعتقد أن ما يميز هذه الشراكة هو بعدها الجيواستراتيجي أيضا، إذ تُظهر أن العالم العربي قادر، إذا توفرت الإرادة السياسية والرؤية الاقتصادية، على صياغة حلول ذاتية لأصعب التحديات، بدل انتظار المبادرات القادمة من الخارج، والمغرب اليوم يخطو بثبات نحو نموذج للسيادة المائية والطاقية، والإمارات تثبت من جديد أنها ليست فقط مستثمرا ماليا، بل شريكا تنمويا حقيقيا."




