كينيا تدعم الحكم الذاتي في الصحراء وتفتتح سفارتها في الرباط.. وخبير كيني لـ "الصحيفة": الاعتراف بـ"البوليساريو" لم يعد يحظى بأي إجماع
تستعد كل من المملكة المغربية وجمهورية كينيا لتدشين مرحلة جديدة في علاقاتهما الثنائية، بافتتاح سفارة كينيا بالرباط، وهو ما يمثل تحوّلا نوعيا في مسار التعاون بين البلدين عقب سنوات من الفتور النسبي الذي فرضه موقف نيروبي التقليدي من قضية الصحراء.
الحدث تزامن مع زيارة رسمية يقوم بها وزير الخارجية الكيني، موساليا مودافادي، إلى المغرب منذ أمس الأحد تمتد على مدى ثلاثة أيام، وهي الأولى من نوعها منذ تعيينه في المنصب، وتحمل في طياتها رسائل سياسية واضحة برغبة نيروبي في تعزيز شراكاتها الاستراتيجية داخل القارة، خاصة مع المغرب الذي أصبح فاعلا محوريا في التعاون جنوب-جنوب وفي مجالات الطاقة والفلاحة والتجارة.
وخلال زيارته، أسجري مودافادي مباحثات رسمية مع نظيره المغربي ناصر بوريطة، في العاصمة الرباط، اليوم الإثنين، كما تم افتتاح المقر الرسمي لسفارة كينيا بالمملكة، وهو تطور يعكس رغبة كينيا في تجاوز منطق الاصطفاف الإيديولوجي الذي طبع مواقفها في العقود الماضية، خاصة في ما يتعلق بدعمها التاريخي لما يسمى بـ"الجمهورية الصحراوية".
وفي تغريدة نشرها عبر منصة "إكس"، كشف وزير الخارجية الكيني عن مضمون لقائه مع السفيرة الكينية بالمغرب، جيسيكا جاكينيا، حيث أقرّ بأن المبادلات التجارية بين البلدين تعاني من اختلال كبير لصالح المغرب، فوفق الأرقام التي قدمها مودافادي، تبلغ قيمة الواردات الكينية من المغرب – التي تتكون أساسا من الأسمدة والمنتجات الأساسية – حوالي 12 مليار شلن كيني، ما يعادل نحو 93 مليون دولار أمريكي، بينما لا تتعدى الصادرات الكينية إلى المملكة 500 مليون شلن، أي ما يقارب 3.8 ملايين دولار فقط.
وتابع المسؤول الكيني موضحا أن النقاش تمحور حول وضع إستراتيجية فعالة لتعزيز صادرات الشاي والقهوة الكينية نحو السوق المغربية، من أجل بناء شراكة تجارية أكثر توازنا وتكافؤا، تعود بالنفع المتبادل على الطرفين، كما أعلن عن توجه كيني لتوسيع آفاق التعاون في قطاعات استراتيجية أخرى، بالتوازي مع التحضير للتوقيع على خمسة بروتوكولات اتفاق تشمل مجالات متعددة، من المرتقب أن يتم توقيعها رسميا خلال هذه الزيارة.
ورغم ما يبدو من تحولات إيجابية في مسار العلاقات الثنائية، تبقى قضية الصحراء أحد المحاور الشائكة في العلاقات المغربية الكينية، فكينيا لا تزال تحتفظ باعترافها بما يسمى بـ"الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية (RASD)"، وهو موقف تؤطره تحالفات إيديولوجية تعود إلى مرحلة الحرب الباردة، وتجد امتدادا لها في بعض المؤسسات السيادية الكينية، قبل أن يتطور هذا الموقف، اليوم الإثنين، بعد أن اعتبرت جمهورية كينيا المخطط المغربي للحكم الذاتي بمثابة "المقاربة المستدامة الوحيدة لتسوية قضية الصحراء"، مشيدة بالتوافق الدولي المتزايد والدينامية التي يقودها الملك محمد السادس الداعمة لهذا المخطط.
وعبرت كينيا عن هذا الموقف، في بيان مشترك صدر عقب لقاء جرى، اليوم الاثنين بالرباط، بين وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ناصر بوريطة، والوزير الأول، وزير الشؤون الخارجية وشؤون المغتربين بجمهورية كينيا، موساليا مودافادي.
جاء في البيان المشترك أن كينيا "تعتبر مخطط الحكم الذاتي، بمثابة المقاربة المستدامة الوحيدة لتسوية قضية الصحراء، وتعتزم التعاون مع الدول التي تتقاسم الرؤية نفسها من أجل تفعيل هذا المخطط".
وفي سياق مرتبط، يُعد رئيس مجلس النواب الكيني، موزيس ويتانغولا، أحد أبرز المدافعين عن جبهة البوليساريو داخل نيروبي، حيث سبق له أن لعب دورا بارزا في إقناع الرئيس الحالي ويليام روتو بالتراجع عن قراره المعلن يوم 14 شتنبر 2022 بقطع العلاقات مع "RASD"، وهو القرار الذي أُعلن عنه تزامنا مع تنصيب روتو رئيسا، قبل أن يتم التراجع عنه لاحقا تحت ضغط المؤسسة التشريعية وبعض مكونات السلطة في كينيا.
وفي مواجهة مواقف من هذا النوع، وبدل خوض معارك سياسية مباشرة، تبنى المغرب منذ أكثر من عقد استراتيجية براغماتية تقوم على بناء شراكات اقتصادية وتنموية قوية مع الدول الإفريقية التي تعترف بـ"البوليساريو"، من خلال مشاريع استثمارية، وتمويلات تنموية، وبرامج تعاون جنوب–جنوب.
وقد أثمرت هذه المقاربة عن تحولات تدريجية في مواقف العديد من الدول الإفريقية، أبرزها رواندا وإثيوبيا ونيجيريا وأنغولا وتنزانيا، فيما قررت غانا في يناير 2024 تعليق علاقاتها مع جبهة البوليساريو، وهو ما اعتُبر انتصارًا دبلوماسيًا للمغرب ضمن المعركة المتواصلة من أجل تكريس سيادته على صحرائه.
وتأتي هذه التحركات الدبلوماسية في كينيا في ظل استعداد البلاد لدخول غمار الانتخابات الرئاسية المقررة سنة 2027، وهي محطة مفصلية من شأنها أن تعيد تشكيل مواقف نيروبي الخارجية وفق المصالح التي يراها الفاعلون السياسيون الكينيون أكثر نفعا للبلاد.
الرئيس الحالي، ويليام روتو وصل إلى السلطة سنة 2022 بتحالفه مع حزب ويتانغولا، أحد داعمي "البوليساريو"، لكن المؤشرات الراهنة توحي بإمكانية تحول في الموقف الكيني الرسمي إذا ما رأت السلطة التنفيذية أن توثيق العلاقات مع المغرب يفتح آفاقا أوسع للتنمية والاستثمار والاندماج القاري، وهو ما ظهر في بلاغ اليوم.
ومع افتتاح السفارة الكينية في الرباط، تفتح صفحة جديدة في العلاقات المغربية الكينية، عنوانها الأساسي هو البراغماتية الاقتصادية والتنسيق السياسي المتدرج، وسط سياق إفريقي متحول يعاد فيه رسم خريطة التحالفات.
ومع أن قضية الصحراء كانت تشكل نقطة تباين بين الرباط ونيروبي، إلا أن لغة المصالح وواقع التحولات الإقليمية، وفق تقديرات مراقبين قد يُفضيان، في المستقبل القريب، إلى مراجعة شاملة للمواقف التقليدية، بما يعكس نجاح المغرب في توسيع دائرة نفوذه الناعم داخل القارة.
وفي هذا الإطار، اعتبر البروفسور باتريك أوتينو، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة نيروبي أن زيارة وزير الخارجية الكيني إلى المغرب وافتتاح السفارة في الرباط "ليست مجرد خطوة بروتوكولية، بل تعكس تحولا نوعيا في عقيدة السياسة الخارجية الكينية، التي باتت اليوم أكثر ميلا إلى البراغماتية الاقتصادية والانفتاح على القوى الإقليمية الصاعدة في القارة، وعلى رأسها المغرب".
وأوضح أوتينو، في تصريح خصّ به "الصحيفة"، أن "كينيا تدرك أن شراكة اقتصادية استراتيجية مع المغرب قد تعني تحسين شروط اندماجها في سلاسل التوريد الإقليمية، خاصة في مجالات الأسمدة والطاقة والبنية التحتية، وهو ما يتقاطع مع أهداف رؤية كينيا 2030 في تسريع التحول الزراعي والتصنيع المحلي".
وأضاف الخبير الكيني أن "العجز الكبير في الميزان التجاري مع المغرب يثير قلق دوائر القرار الاقتصادي في نيروبي، إذ إن وارداتنا من المغرب، خصوصا من المواد الكيماوية والفوسفات والأسمدة، تجاوزت 93 مليون دولار سنة 2023، في حين أن صادراتنا نحو المملكة، وفي مقدمتها الشاي والقهوة، بالكاد بلغت 3.8 ملايين دولار، وهو ما يُشكّل اختلالا بنيويًا يستوجب المعالجة عبر اتفاقيات تبادل تجاري تفضيلي، وربما فتح خطوط لوجستية مباشرة بين موانئ البلدين".
وفي ما يخص البُعد الجيوسياسي للزيارة، يرى أوتينو أن "المغرب استطاع خلال العقد الماضي أن يرسخ حضوره بهدوء داخل شرق إفريقيا، عبر أدوات ناعمة واستثمارات موجهة، دون تصعيد خطابي أو اشتراطات سياسية، وهو ما يجعل الرباط فاعلا مفضلا لدى العديد من صناع القرار في أديس أبابا ونيروبي وكمبالا ودار السلام".
أما عن موقف كينيا من قضية الصحراء، فاعتبر البروفسور أوتينو أن "الاعتراف بـ"الجمهورية الصحراوية" لا يحظى بإجماع داخل الطبقة السياسية الكينية، وأن الحفاظ عليه يتم اليوم بدوافع داخلية محضة تتعلق بتوازنات التحالف الحاكم والتجاذبات بين رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان"، لكنه شدد على أن "هذا الوضع قد لا يصمد طويلا إذا اتضح أن كلفة الانحياز إلى أطروحة البوليساريو تُهدد فرص الاستثمار والتكامل مع محور اقتصادي صاعد يقوده المغرب داخل إفريقيا".
وختم أوتينو، حديثه لـ "الصحيفة" بالقول: "أعتقد أن السنوات الثلاث المقبلة ستكون حاسمة في إعادة تشكيل توجهات كينيا الخارجية، خصوصًا مع اقتراب استحقاقات 2027، ومع تغير البيئة الجيوسياسية في منطقة الساحل والقرن الإفريقي، حيث بدأت العديد من الدول الإفريقية تعيد تقييم مواقفها من النزاعات الإيديولوجية القديمة لصالح براغماتية تنموية جديدة".





تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :