التجمعي أشنكلي خصص 362 مليون سنتيم لـ"تكوين منتخبي" جهة سوس وإيوائهم وأكلهم وتنقلهم، والصفقات ترسو على شركات وتقصي أخرى
في عز ظرفية اقتصادية دقيقة تعرفها البلاد، رفعت الحكومة الحالية شعار ترشيد النفقات والتقشف موجهة تعليمات صارمة إلى الإدارات والمؤسسات العمومية بضرورة ضبط ميزانياتها والحد من المصاريف غير الضرورية، بيد أن الوقائع تكشف صورة مغايرة تماما لما خُط على الورق في بعض الجهات، حيث أقدمت جهة سوس ماسة التي يرأسها اكريم أشنكلي المنتمي إلى حزب رئيس الحكومة عزيز أخنوش، على صرف ما يفوق 362 مليون سنتيم (3.627.242 درهما) خلال سنتي 2024 و2025، في إطار دورة تكوينية لفائدة المنتخبين.
الرقم الضخم، الذي يعادل كلفة مشاريع تنموية صغيرة أو تجهيزات اجتماعية حيوية في مناطق مهمشة من الجهة، يفتح الباب أمام أكثر من سؤال حول أولويات الإنفاق العمومي في المغرب، وحدود الانسجام بين خطاب الحكومة حول التقشف وترشيد المصاريف، والممارسة الفعلية لرؤساء الجهات والجماعات الذين يتعاملون مع المال العام بمنطق "التكوينات الفندقية" بدل الاستثمار المباشر في التنمية.
وكانت صحيفة "المغرب الاقتصادي" قد كشفت لأول مرة عن تفاصيل مثيرة تتعلق بإنفاق مجلس جهة سوس ماسة، برئاسة كريم أشنكلي المنتمي لحزب رئيس الحكومة عزيز أخنوش، مبلغا ضخما يفوق 3.627.242 درهما، أي ما يعادل 362 مليون سنتيم، على دورة تكوينية لفائدة منتخبي الجهة، موزعة على أربع صفقات عمومية خلال سنتي 2024 و2025.
من جانبها، قامت "الصحيفة" بالاطلاع على التقارير الرسمية للصفقات حيث تبين أن هذه الأرقام دقيقة وأن توزيعها تم بشكل متفرع بين صفقات تتعلق بالتنظيم والإيواء والإطعام والنقل، وهو ما يفرض طرح أسئلة عميقة حول أولويات صرف المال العام في فترة تعلن فيها الحكومة عن التقشف وترشيد النفقات، وفي جهة وصفها عاهل البلاد الملك محمد السادس في خطابه ليوم 6 نونبر 2019، بمناسبة الذكرى 44 لانطلاق المسيرة الخضراء بـ "الوسط الحقيقي للمملكة" معتبرا أنه "ليس من المعقول أن تكون جهة سوس ماسة في وسط المغرب وبعض البنيات التحتية الأساسية، تتوقف في مراكش، رغم ما تتوفر عليه المنطقة من طاقات وإمكانات".
ووفق التقارير الرسمية ذاتها التي اطلعت عليها "الصحيفة" فإن الصفقة الأولى التي تحمل رقم 21/2024 تتعلق بتنظيم دورة تكوينية للمنتخبين المحليين بالجهة، وقد رست على شركة AVAST INSTITUT بمبلغ 725.280 درهما، أي ما يعادل أكثر من 72 مليون سنتيم، وهذا المبلغ تم تخصيصه فقط للتنظيم، دون أن يتضح للرأي العام مضمون هذا التكوين ولا عدد المستفيدين منه ولا الأثر العملي الذي خلفه على أداء المنتخبين في مهامهم.
أما الصفقة الثانية، رقم 19/2025، ارتبطت بخدمات الاستقبال التي شملت وجبات الغذاء واستراحات القهوة، حيث بلغت قيمتها الإجمالية 1.042.800 درهم، أي ما يزيد عن 100 مليون سنتيم، وفازت بها شركة AFNANE GLOBAL BUSINESS. فيما هذه الصفقة لا علاقة لها بالمحتوى التكويني أو بجوهر البرنامج، بل اقتصرت على الضيافة والإطعام، وهو ما يطرح مفارقة صادمة، فهنا نتحدث عن ميزانية هائلة خصصت للطعام والشراب في وقت تعاني فيه جماعات الجهة من خصاص كبير في مشاريع اجتماعية وتنموية أساسية.
الصفقة الثالثة، رقم 23/2025، تعلقت بخدمات النقل البري للمنتخبين المستفيدين من الدورة التكوينية، وقد بلغت قيمتها 285.062 درهما، أي ما يفوق 28 مليون سنتيم، وآلت إلى شركة ADV MAROC. وهذا المبلغ يثير تساؤلات إضافية لأن المنتخبين يتوفرون أصلا على تعويضات عن التنقل، ولأن ميزانيات الجماعات تغطي بدورها مصاريف المهام والسفر، مما يجعل من المنطقي التساؤل عن جدوى إنفاق ما يقارب 30 مليون سنتيم إضافية في دورة تكوينية واحدة على النقل.
الصفقة الرابعة والأكبر حجما هي رقم 47/2025، الخاصة بخدمات الإيواء في الفنادق لفائدة المنتخبين المشاركين، حيث بلغت قيمتها 1.574.100 درهم، أي أكثر من 157 مليون سنتيم، ورست على شركة LABEL TOURS. هذه الكلفة المرتفعة جعلت من الإيواء وحده يستحوذ على ما يقارب نصف الميزانية الإجمالية للتكوين، ما يجعل الدورة التكوينية أقرب إلى إقامة فندقية جماعية تتكفل فيها الجهة بمصاريف السكن الكامل، بدل أن تكون برنامجا عمليا للتأهيل والتكوين.
إجمالي هذه الصفقات الأربع يصل إلى 3.627.242 درهما، أي 362 مليون سنتيم، صرفت على مدى سنتين، منها أكثر من 72 مليون سنتيم سنة 2024، وما يزيد عن 290 مليون سنتيم خلال سنة 2025.
وهذه الأرقام تأتي في وقت وجهت فيه وزارة الداخلية مذكرات متكررة إلى الإدارات والجهات تدعوها إلى ترشيد النفقات وضبط المصاريف والحيلولة دون تضخم الفواتير، غير أن ما وقع في جهة سوس ماسة التي يرأسها التجمعي أشنكلي يعكس توجها مغايرا تماما، حيث صُرفت الملايين على تكوين لم يقدم دليل على جدواه ولا على مردوديته.
ووفق ما عاينته "الصحيفة" من خلال توقفها عند تفاصيل التقارير الرسمية المذكورة هو وجود مفارقة صارخة تتجاوز حجم المبالغ المرصودة إلى كيفية إسناد الصفقات، ففي الصفقة رقم 19/2025 الخاصة بخدمات الاستقبال (وجبات واستراحات قهوة) بلغت القيمة النهائية 1.042.800 درهم، ورست على شركة AFNANE GLOBAL BUSINESS. لكن مراجعة لائحة العروض يبين أن شركات أخرى قدمت أسعارا أقل بكثير، من بينها شركة PAIN-UNO التي وضعت عرضا لا يتجاوز 827.200 درهم، أي أقل بأزيد من مئتي ألف درهم، ومع ذلك لم يتم اختيارها.
المشهد نفسه تكرر في صفقة النقل رقم 23/2025، حيث قدمت شركة SEVEN TOURS عرضا بقيمة 289.296 درهما، بل إن هناك عرضا آخر نزل إلى 245.067 درهما فقط، لكن الصفقة في النهاية رست على شركة ADV MAROC بمبلغ 285.062 درهما. الفوارق هنا قد تبدو طفيفة، لكنها تظل دالة على أن معيار “الأرخص” لم يكن هو المحدد، بل لجأت اللجنة إلى تبرير عام بكون العرض المختار هو “الأكثر ملاءمة”، دون الكشف عن تفاصيل المعايير التي تم الاحتكام إليها.
حتى في صفقة الإيواء رقم 47/2025، ورغم أن العروض كانت متقاربة (1.574.100 درهم لصالح LABEL TOURS، مقابل 1.591.128 درهما لشركة ADV MAROC و1.584.000 درهم لشركة EVENTS ADVISOR)، فإن الترسية في النهاية ذهبت إلى الشركة الأولى بفارق يكاد لا يُذكر، ما يجعل التساؤل مشروعا حول ما إذا كانت هناك اعتبارات أخرى غير السعر تحكمت في هذه الاختيارات.
هذه المفارقات تجعل عبارة "العرض الأكثر ملاءمة" التي تتكرر في المحاضر مجرد غطاء تقني غامض، يسمح للجنة إسناد الصفقات بتجاوز العروض الأرخص لفائدة شركات بعينها، وهو ما يضرب في العمق فكرة ترشيد الإنفاق التي ترفعها الحكومة، ويؤشر إلى أن منطق التقشف المعلن لم يجد طريقه إلى الممارسة الفعلية داخل مجالس الجهات.
وفي المحصلة فإن المعطيات الرسمية، التي نشرتها "المغرب الاقتصادي" وتأكدت منها الصحيفة عبر الاطلاع على المحاضر والتقارير الرسمية، تكشف عن إنفاق سخي من المال العام تحت يافطة "تكوين المنتخبين"، في تناقض صارخ مع خطاب الحكومة حول التقشف والمبالغ المخصصة للتنظيم والإيواء والإطعام والنقل لم تُترجم إلى أثر تنموي مباشر ولم تقدم ضمانات حول تحسين مستوى التدبير المحلي.
وهكذا، فإن ما يحدث بجهة سوس ماسة هو في الحقيقة صورة مصغرة عن معضلة المال العام في المغرب بين خطاب رسمي عن الحكامة والصرامة في الإنفاق، وممارسة ميدانية تسمح بتبديد الموارد في أنشطة شكلية، دون أثر ملموس على حياة المواطنين الذين يواصلون مواجهة الخصاص في الخدمات الأساسية.




