مولاي بوسلهام.. جوهرة طبيعية وملتقى البحر بالبحيرة وملاذ الباحثين عن الهدوء
على الساحل الأطلسي للمغرب، وعلى بُعد كيلومترات قليلة من الطريق الوطنية رقم 1 الرابطة بين القنيطرة والعرائش، تقع بلدة مولاي بوسلهام كجوهرة طبيعية هادئة، تجمع في ملامحها بين البحر والروحانية، وتقدّم نفسها كفضاء مفتوح للزائر الباحث عن صفاء الطبيعة وصدق الضيافة.
هنا، عند نقطة التقاء المحيط الأطلسي ببحيرة المرجة الزرقاء، تتبدّى البلدة الصغيرة لوحة فريدة، لا يشبه جمالها سوى سكونها، ولا يوازي دفء ناسها سوى تنوّع أسراب الطيور المهاجرة التي تحط رحالها في فضاءاتها.

في مولاي بوسلهام، الجماعة الترابية التابعة لجهة الرباط - سلا- القنيطرة، والبالغ عدد سكانها حسب إحصاء سنة 2024 (32629 نسمة)، لا تسمع سوى صوت الموج المتكسّر على الرمال، وزقزقة الطيور وهي تعلن عن موسم الهجرة، ورائحة الفول السوداني والفراولة وهي تختلط بعبق الشاي المنعنع، إنها بلدة صغيرة، لكن حضورها في الذاكرة السياحية والايكولوجية للمغرب أكبر بكثير من مساحتها.
"مولاي بوسلهام".. حكاية إسم ومكان
تعددت الروايات حول أصل مولاي بوسلهام واسمه الكامل، إذ اختلطت سيرته بين التاريخ والأسطورة. فبعض المصادر تشير إلى أنه أبو سعيد عثمان المصري المعروف بـ"أبو سلهام"، بينما تذكر مصادر أخرى أنه أحمد بن عبد الله بن سليمان الإدريسي، ما يجعله ذا نسب إدريسي شريف. هذا الاختلاف جعل صورته تتأرجح بين شخصية تاريخية ورمز صوفي ارتقى إلى مقام الأولياء الكبار، مثل مولاي عبد السلام بن مشيش.
تقول إحدى الروايات إن رحلته نحو المغرب بدأت في القرن العاشر الميلادي، بعد أن غادرت أسرته مصر متوجهة إلى تونس عقب أداء فريضة الحج. هناك انخرط في الوسط الصوفي، حيث بدأت تتشكل طرق روحية لاحقًا مثل الشاذلية والبدوية، لكن خلافات مع حكام مصر دفعت به إلى البحث عن الاستقرار في أرض الأجداد، خاصة وأنه ينتمي إلى قبائل الغرب التي استوطنت المنطقة منذ قرون.

أما الرواية التي تعتمد على مصدر مكتوب، فترتبط بمخطوط مناقب مجهول الهوية عثر عليه الباحث الفرنسي جورج سالمون بمدينة القصر الكبير قبل حوالي مئة عام، ويذكر المخطوط أن مولاي بوسلهام وصل أولاً إلى محيط مدينة ليكسوس الأثرية قرب العرائش، حيث التقى بالزاهد عبد الرحمن الأزرق، هذا الأخير أدرك مكانته الروحية ونعته بـ"الرجل المظلوم من أمراء مصر"، الباحث عن سكينة وعزلة.
منذ ذلك اللقاء، اختار مولاي بوسلهام طريق الزهد والتأمل على ضفاف البحر وفي أحضان الغابة. ومع مرور الوقت، نسجت حوله الحكايات الشعبية والأساطير، لترسّخ حضوره كرمز روحي وتمنح المنطقة اسمها الذي ما زال حيًا إلى اليوم.
وخلال فترة الحماية الفرنسية والإسبانية، أصبحت "للمرجة الزرقاء" أهمية خاصة باعتبارها مجالا حيويا لمراقبة الشريط الساحلي، كما اعتمدتها السلطات الاستعمارية محطة لصيد الأسماك وتسويقها.
لاحقا، وبفضل غناها البيئي، صُنّفت المرجة الزرقاء سنة 1980 ضمن المناطق الأربعة الأولى لاتفاقية "رامسار" للمناطق الرطبة ذات الأهمية العالمية، لتصبح سيدي بوسلهام على الخريطة الدولية محطة محمية للطيور المهاجرة، التي تعبر نحو إفريقيا جنوب الصحراء.
الطريق إلى مولاي بوسلهام.. رحلة قصيرة ممتعة
الوصول إلى سيدي بوسلهام سهل نسبيا مقارنة بوجهات أخرى، فإذا كنت قادما من الرباط أو القنيطرة، يكفي أن تسلك الطريق السيار رقم A5 في اتجاه الشمال، لتقطع مسافة حوالي 100 كيلومترا من القنيطرة أو 134 كيلومترا من الرباط في رحلة لا تتجاوز ساعة ونصف بالسيارة، أما القادمون من العرائش، فلن يحتاجوا سوى قطع مسافة 44 كيلومترا عبر الطريق السيار A5، أي أقل من 40 دقيقة.
ويمكنك الوصول أيضا عبر القطار عبر محطات القنيطرة أو العرائش، ثم اعتماد سيارات الأجرة الكبيرة التي تنقل المسافرين مباشرة نحو سيدي بوسلهام. أما بالنسبة للرحلات الجوية، فأقرب مطار هو مطار طنجة ابن بطوطة الدولي، على بعد 123 كيلومترا شمالا، أو مطار الرباط- سلا على بعد حوالي 140 كيلومترا جنوبا.

توجد كذلك حافلات تربط المدن الرئيسية بمولاي بوسلهام، ولكن قد تحتاج إلى تغيير الحافلات في مدن مثل سوق الأربعاء الغرب أو القنيطرة.
هذه السهولة في الوصول جعلت سيدي بوسلهام وجهة مفضلة للرحلات العائلية القصيرة وللسياحة الداخلية، خاصة في عطلة نهاية الأسبوع وفصل الصيف.
المرجة الزرقاء.. قلب سيدي بوسلهام البيئي
لا يمكن الحديث عن سيدي بوسلهام دون التوقف مطوّلا عند بحيرة المرجة الزرقاء، التي تمتد على مساحة أزيد 7 آلاف هكتار، وتشكل واحدة من أغنى المحميات الطبيعية في المغرب.
هذه البحيرة ليست مجرد مساحة مائية، بل نظام بيئي متكامل، حيث تختلط المياه العذبة المتدفقة من وادي الدرادر وقناة الناضور بالمياه المالحة القادمة من المحيط، فتخلق وسطا رطبا مثاليا للطيور المهاجرة والنباتات المائية.

على ضفاف المرجة تنتشر منصات مراقبة للطيور، يستعملها الباحثون والمهتمون بالسياحة الإيكولوجية، هنا يمكنك أن ترى طائر الفلامينغو الوردي مصطفّا على شكل أسراب، أو طيور الغاق وهي تغطس لصيد الأسماك، أو أنواع البط البري التي تستريح قبل استكمال رحلتها الطويلة نحو الجنوب.
وبفضل هذا الغنى الطبيعي، أصبحت سيدي بوسلهام محطة مفضلة للعلماء والطلبة الباحثين في مجالات البيئة والتنوع البيولوجي.
الشواطئ.. رمال ذهبية وهدوء الأطلسي
إلى جانب البحيرة، تفتح سيدي بوسلهام ذراعيها على شاطئ أطلسي طويل، يتميز برماله الذهبية ومياهه الصافية، ويستقطب في الصيف أعدادا متزايدة من الزوار، يتميز بأمواج المحيط الأطلسي التي يمكن أن تكون قوية أحيانا، مما يجعله مناسبا لركوب الأمواج خاصة للمبتدئين والمتوسطين.
شاطئ القرية الرئيسي يمتد بمحاذاة مركز البلدة، حيث تنتشر المقاهي والمطاعم الشعبية، بينما تظل الضفة الشمالية أكثر هدوء وبكرا، يقصدها من يبحث عن مساحات فارغة للتأمل والسباحة بعيدا عن الزحام.

تتوفر إمكانية ركوب الخيل على الشاطئ، وهي تجربة ممتعة خاصة عند غروب الشمس، ولمن يبحث عن مزيد من الهدوء والعزلة، توجد بعض الشواطئ الأقل ارتيادا على مسافة قصيرة بالسيارة أو حتى سيرا على الأقدام من مولاي بوسلهام، هذه الأماكن السياحية الأقل شهرة توفر تجربة طبيعية أكثر خصوصية.
الأكل في سيدي بوسلهام.. طعام البحر بطابعه الخاص
الطعام في سيدي بوسلهام عنوان آخر للتجربة، فالميناء الصغير يمدّ المطاعم والأسواق المحلية يوميا بأسماك طازجة: السردين، البوري، المرجان، والكروفيت.
وعلى الرغم من بساطة المطاعم الشعبية المنتشرة بمحاذاة الشاطئ، فإن مذاق الأطباق يفوق التوقعات، لا شيء يعادل طبق سردين مشوي على الفحم، مرفوق بسلطة طماطم وخبز تقليدي ساخن.
أما محبو الأطباق التقليدية، فيمكنهم تذوق "طاجين السمك بالزيتون والليمون المُصير"، أو حساء "الحوت" الذي يحضّر بطريقة محلية.
ولا تكتمل الزيارة دون جلسة شاي بالنعناع أو الأعشاب البرية، على شرفة تطل على البحر أو ضفاف المرجة الزرقاء، حيث تتداخل رائحة النعناع مع نسيم المحيط.
أنشطة لا تنتهي.. بين البحر والبحيرة
زيارة سيدي بوسلهام ليست مجرد استجمام على الشاطئ، بل هي فرصة للتواصل مع الطبيعة الساحرة للبحيرة، وفهم النظام البيئي المحلي، والاستمتاع بالهدوء والسكينة التي يوفرها المكان،

فالمكان يتيح مجموعة من الأنشطة، من بينها مراقبة الطيور، سواء كنت عالم طيور محترفا أو مجرد هاٍو يستمتع بجمال الطبيعة، فإن مرجة الزرقاء توفر فرصا لا مثيل لها، أحضر منظارك وكاميرتك، وكن مستعدا لقضاء ساعات في مراقبة وتوثيق الأنواع المذهلة من الطيور، حيث يمكنك استئجار مرشدين محليين لاكتشاف أسراب الطيور ومواسم هجرتها.
يمكنك كذلك القيام جولات بالقوارب في المرجة الزرقاء، التي تتيح الاقتراب من أسراب الطيور ورؤية النباتات المائية، إلى جانب الصيد بالقصبة، الذي يستهوي الهواة والمحترفين على السواء، خاصة على الجروف الصخرية القريبة.
أما الرياضات البحرية، فهي متعة فريدة مثل ركوب الأمواج أو التجديف، وهي أنشطة بدأت تعرف رواجا بين الشباب، إلى جانب التخييم بفضل المساحات الطبيعية المحيطة، حيث يفضل بعض الزوار نصب خيامهم بالقرب من الشاطئ أو في أحضان الغابة المجاورة.
الإقامة.. بين منازل للكراء وفنادق صغيرة
رغم طابعها القروي الهادئ، توفر مولاي بوسلهام عدة إمكانيات للإقامة تناسب مختلف الميزانيات والأنماط، دور الضيافة والفنادق الصغيرة، تنتشر بعض المؤسسات البسيطة التي تقدم غرفا مريحة بأسعار تتراوح بين 300 و700 درهم لليلة الواحدة وخدمات أساسية، وتتميز بأجواء عائلية ودافئة تجعل الضيف يشعر وكأنه بين أهل المنطقة.
الشقق والمنازل المفروشة: خيار مفضل لدى العائلات والمجموعات أو من يخططون لإقامة أطول، حيث يمكن استئجار شقق أو منازل بأثمنة متفاوتة ومناسبة عبر السكان المحليين أو عبر منصات الحجز الإلكترونية.

مواقع التخييم: لعشاق المغامرة والاقتراب من الطبيعة، تتوفر فضاءات مجهزة للتخييم بالقرب من الشاطئ أو ضفاف المرجة، بأسعار في متناول الجميع. ويُنصح بالحجز المسبق خاصة في فصل الصيف أو خلال فترات توافد مراقبي الطيور المهاجرة، حيث يعرف الطلب على أماكن الإقامة ارتفاعا ملحوظا.
حين تغادر.. ما يبقى ليس الصورة بل الإحساس
قبل أن تغادر سيدي بوسلهام، يمكنك أن تأخذ لحظة قصيرة للجلوس على الشاطئ أو بجوار المرجة الزرقاء، ستلاحظ الطيور وهي تحلق بالقرب منك، والأمواج وهي تتكسر بهدوء، والنسيم الرطب الذي يخفف حرارة اليوم.

عندها ستدرك أن القرية ليست مجرد محطة للسباحة أو التنزه، بل مكان يوفر تجربة هادئة وبعيدة عن صخب المدن، وقد لا تغادرها فقط بذكريات الصور التي التقطتها، بل بشعور بالراحة يدفعك للتفكير في العودة مرة أخرى إلى هذا الركن البسيط من الساحل المغربي.




