عبد الحميد البجوقي
الأثنين 1 دجنبر 2025 - 0:08

استقلال القضاء واحتدام الصراع السياسي في إسبانيا.. "هل المغرب في دائرة التأثير؟"

يعرفُ المشهد السياسي في إسبانيا خلال الأشهر الأخيرة حالة توتر غير مسبوقة بسبب الجدل المتصاعد حول استقلال القضاء وحدود تدخله في الصراع السياسي الدائر بين الحكومة اليسارية برئاسة بيدرو سانشيث والمعارضة اليمينية التي يقودها أساساً “الحزب الشعبي” وبدعم حزب فوكس اليمينيي المتطرف.

هذا الجدل، الذي كان في البداية نقاشاً أكاديمياً حول تجديد المجلس العام للسلطة القضائية، تحول تدريجياً إلى معركة مفتوحة يتهم فيها كل طرف الآخر بمحاولة السيطرة على جهاز العدالة واستعماله كسلاح في الصراع السياسي.

في خضمّ هذا التوتر السياسي، تقف مؤسستان محوريتان في بنية القضاء الإسباني: المجلس العام للسلطة القضائية (CGPJ) والنيابة العامة (Fiscalía General del Estado).

المجلس العام للسلطة القضائية هو الهيئة الدستورية المكلّفة بضمان استقلال القضاء، ويتولى إدارة شؤون القضاة من تعيينٍ وترقيةٍ وتأديب، وفقاً لما ينص عليه الدستور الإسباني لسنة 1978. غير أنّ هذا المجلس ظلّ لسنوات في حالة “شلل مؤسسي” بسبب عدم قدرة الأحزاب في البرلمان على الاتفاق لتجديد أعضائه، وهو ما أدى إلى استمرار تركيبة تعكس توازنات قديمة يغلب عليها الطابع المحافظ، نتيجة الأغلبية البرلمانية التي كانت قائمة عند تعيينه.

هذا الجمود جعل كثيراً من قرارات المجلس وتعييناته محلّ انتقاد من الحكومة اليسارية التي رأت فيها استمراراً لهيمنة سياسية محافظة داخل مؤسسة يفترض أن تعمل بمعزل عن أي اصطفاف حزبي.

أما النيابة العامة، فهي أيضاً مؤسسة دستورية تُناط بها مهمة الدفاع عن الشرعية القانونية والمصلحة العامة وتمثيل الدولة أمام القضاء، ويجري تعيين النائب العام من قبل الحكومة، لكنه من الناحية النظرية يمارس مهامه باستقلالية وفق الدستور والقانون المنظم للنيابة العامة.

ومع وصول حكومة يسارية جديدة وتصاعد التوترات الانتخابية، بدأت تظهر ملفات قضائية وفتح تحقيقات تطال شخصيات مقربة من رئيس الحكومة الاشتراكي بيدرو سانتشيث أو محسوبة على حزبه. وقد فسّرت أحزاب اليسار الاسباني هذا الأمر على أنه محاولة من “شبكات” داخل الجهاز القضائي – خصوصاً داخل المجلس العام للسلطة القضائية وبعض دوائر النيابة –  لعرقلة عمل الحكومة عبر ما يسميه “حرباً قضائية”، وهي ظاهرة تم تداولها في دول أخرى بأوروبا وأمريكا اللاتينية حيث تُستخدم الآليات القضائية لخلق ضغط سياسي.

وبذلك، يتقاطع المشهد القضائي والسياسي في إسبانيا في لحظة يتجادل فيها الطرفان حول حدود استقلال القضاء، وتركيبة المؤسسات المُشرفة عليه، ومدى تأثرها بتوازنات القوى الحزبية داخل الدولة.

وتشهد الساحة السياسية الإسبانية اليوم توتراً غير مسبوق بعد محاكمة وإدانة النائب العام للدولة، ألفارو غارسيا أورتيز Alvaro Garcia Ortiz، في قضية تتعلق بتسريب معلومات سرّية تخص تحقيقاً في ملف فساد يمس أحد رموز المعارضة اليمينية، وهي واقعة اعتُبرت تاريخية لحساسية المنصب الذي يشغله الرجل ودوره في حماية الشرعية الدستورية. هذا الحدث لم يمرّ مرور الكرام، بل سرّع انكشاف الانقسام العميق بين اليمين واليسار؛ إذ رأى اليمين في هذه المحاكمة دليلاً على أن الحكومة عيّنت النائب العام لأغراض سياسية، معتبرًا أن القضية تكشف «هندسة» حكومية للتأثير على التحقيقات.

في المقابل، اعتبر اليسار أن الجرأة في الدفع بهذا الملف أمام القضاء تُترجم «أجندة سياسية» مناوئة للحكومة، وأن توظيف القضية يهدف إضعاف السلطة التنفيذية وإرباك عملها. وقد ازدادت حدّة هذا السجال عندما وجّه رئيس الوزراء، بيدرو سانشيث، اتهامات مباشرة وغير مسبوقة لبعض الدوائر القضائية، مُتهماً إياها بالتدخل في الحياة السياسية والتأثر بضغوط إعلام محسوب على اليمين أو حتى ضغوط مباشرة من اليمين ـ الحزب الشعبي ومنظّمات يمينية متطرّفة ـ، وهو ما زاد من تفاقم الانقسام الداخلي حول سؤال من يحمي الديمقراطية ومن يهددها؟ هذه الاتهامات، التي وثّقتها تقارير إعلامية دولية أبرزها The Guardian وThe Olive Press ، أعادت النقاش حول استقلال القضاء في بلد لطالما اعتُبر فيه الجهاز القضائي أحد الأعمدة الأكثر صلابة في النظام الدستوري الإسباني.

غير أن خطورة هذا السجال تتجاوز حدوده الحزبية البحتة، لأن القضاء في إسبانيا ليس جهازاً تقنياً معزولاً، بل مؤسسة لها وزن مباشر في رسم ملامح السياسات الداخلية والخارجية، ولها نفوذ حقيقي في القضايا ذات الطابع الأمني والاستراتيجي.

ومع صعود تيارات يمينية متشددة داخل بعض المؤسسات، يخشى عدد من المراقبين أن يؤدي هذا التوتر إلى تسييس قرارات قضائية يمكن أن يكون لها انعكاس خارج الحدود، خصوصاً في الملفات المتعلقة بالمغرب، الشريك الأساسي لإسبانيا في قضايا الهجرة ومكافحة الإرهاب والأمن البحري والتعاون الاستخباراتي، إضافة إلى ملفات سبتة ومليلية.

ولأن طبيعة هذه القضايا حساسة، فإن أي تحول في توازنات السلطة بين الحكومة والقضاء قد ينعكس بصورة مباشرة على كيفية تعامل المحاكم ودوائر القرار مع ملفات مرتبطة بالمملكة المغربية، سواء من حيث معالجة قضايا المهاجرين، أو محاكمة نشطاء، أو حتى البت في ملفات تتعلق بالتعاون الأمني والتجاري.

ومن ثمّ، فإن الخشية المطروحة اليوم تكمن في أن يتحول القضاء — إذا طالته حسابات سياسية متطرفة — إلى أداة تأثير غير محايدة، بما يُهدد الاستقرار الدبلوماسي بين مدريد والرباط ويجعل القرارات القضائية مرآة لصراع داخلي لا علاقة للمغرب به، لكن قد يدفع ثمنه على صعيد ملفات استراتيجية مشتركة.

بهذا المعنى، فإن الأزمة الراهنة تكشف هشاشة العلاقة بين السياسة والقانون في إسبانيا، وتطرح سؤالاً مُقلقاً حول مستقبل استقلال القضاء والتوازن المؤسساتي، ليس فقط داخل الدولة الإسبانية، بل أيضاً في تعاملها مع شركائها الإقليميين، وعلى رأسهم المغرب، حيث يمكن لأي انزياح في هذا التوازن أن يغيّر طبيعة التفاهمات الحساسة التي بُنيت عبر سنوات من التعاون الصعب والمعقد.

وتزداد المخاوف حين يُلاحظ أن بعض الأصوات داخل اليمين المتطرف تستعمل ملفات قضائية مرتبطة بالمغرب لشن هجمات سياسية على الحكومة الإسبانية واتهامها بـ“الخضوع للمغرب” أو “المقايضة السياسية معه”. هذا التوظيف الإعلامي – السياسي للقضاء يجعل قضايا ثنائية معقدة رهينة صراع داخلي لا علاقة له بمصالح الشعبين، بل يُهدد الاستقرار الذي عمل عليه البلدان منذ بداية التقارب الجديد قبل سنوات.

في المحصلة، الوضع السياسي في إسبانيا اليوم يعكس أزمة ثقة عميقة بين المؤسسات، حيث يرى اليسار أن القضاء أصبح مسرحاً لتصفية الحسابات السياسية، فيما يعتبر اليمين أن الحكومة تحاول تغيير قواعد اللعبة لتأمين نفسها من المتابعة والمحاسبة. وبين هذا وذاك، يبقى القضاء الإسباني أمام امتحان صعب، إما أن يُثبِت استقلاليته وصورته كمؤسسة فوق الصراعات، أو يستمر في أن يكون جزءاً من الاستقطاب الحاد الذي يُهدد التوازن السياسي والديمقراطي في البلاد.

ما يجب أن تنتبه له الرباط والمتابعين المغاربة هو أن هذا الجدل لم يعد شأناً داخلياً صرفاً، بل أصبح عاملاً مؤثراً في مستقبل العلاقات الثنائية ومسار المصالح المشتركة بين بلدين تجمعهما شراكة استراتيجية تتطلب قدراً عالياً من الاستقرار والثقة والمؤسساتية.

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة

ما يجب قوله للإسبان في مدريد؟

في الوقت الذي تعقد فيه الحكومة الإسبانية ونظيرتها المغربية، اليوم الخميس، بمدريد الدورة الثالثة عشرة من الاجتماع الرفيع المستوى، مع ما يعكس ذلك من تطور كبير في العلاقات الثنائية بين ...

استطلاع رأي

مع قُرب انطلاق نهائيات كأس إفريقيا للأمم "المغرب2025".. من تتوقع أن يفوز باللقب من منتخبات شمال إفريقيا؟

Loading...