انفجار قضية فساد كبرى بملايين الدولارات داخل الجيش ووزارة الصحة في موريتانيا.. والتحقيقات تطال شركة مغربية لتوريد مُعدات طبية
جدد الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني أول أمس التزامه بمواجهة الفساد والرشوة بلا هوادة في تغريدة بمناسبة ذكرى اليوم العالمي لمكافحة الفساد، بينما وجد الرأي العام الموريتاني نفسه منشغلاً بقضيتين شائكتين تتعلقان بالفساد المالي، أولاهما صفقة لتوريد معدات طبية أبرمها الجيش، والأخرى تحقيق قضائي مستمر حول رشاوى مرتبطة ببناء المختبر الجنائي للشرطة.
وقد أثارت هذه الملفات اهتمام المواطنين ووسائل الإعلام والمدونين على حد سواء، في وقت تواجه فيه الحكومة تحدياً كبيراً يتمثل في ترسيخ الشفافية والنزاهة في مؤسسات الدولة.
في هذا السياق، كشفت "وكالة الأخبار المستقلة"، عن وثائق وتسجيلات نشرتها، تخص تفاصيل صفقة المعدات الطبية التي تولّى الجيش الموريتاني إبرامها لصالح وزارة الصحة، والتي شهدت، حسب الوكالة، اختلالات قانونية وتضارباً في القرارات على مدى نحو عام كامل.
وخلال هذه الفترة بقيت الصفقة عالقة، وتغيّرت الشركات المنفذة ووسطاؤها، ما حال دون وصول الأجهزة إلى المستشفيات المعنية، حسب المصدر المذكور، وأبقى المرضى والمراجعين في انتظار معدات كان من المفترض أن تحسن تشخيص أمراضهم وتخفف مضاعفات الأمراض. وتوضح الوثائق أن وزارة الصحة تنازلت عن الصفقة للجيش، الذي منحها أولاً لشركة سنغالية، قبل أن يسحبها ويمنحها لشركة مغربية.
وتمت هذه العمليات بالتراضي، خلافاً للقانون الموريتاني الذي يمنع منح الصفقات بدون منافسة إلا في حالات استثنائية محددة، مثل الكوارث الطبيعية أو حماية حقوق حصرية أو أمن الوطن، وهو ما لم ينطبق على هذه الصفقة.
ورغم مرور نحو عام لم يتم تنفيذ الصفقة، ولم تُفرض أي عقوبات على التأخير أو الإخلال بالالتزامات، كما لم يُسحب الضمان المالي الذي أودعته الشركة السنغالية، وفقاً لوكالة الأخبار.
وقد أظهرت المعطيات أن الجيش دفع نحو 80 في المائة من مبلغ الصفقة الأصلية للشركة السنغالية قبل أن يطالب باستعادة المبلغ بعد أسبوع بحجة خطأ في العملة، وهو ما أثار استغراب المراقبين.
ووقّعت قيادة أركان الجيش الموريتاني عقد الصفقة مع شركة Fortunes Capital السنغالية في شهر دجنبر 2024 بمبلغ 5.194.800 أورو، ثم أضافت ملحقاً في أبريل 2025 رفع قيمة الصفقة إلى 8.180.048 أورو، أي ما يقارب 3,2 مليار أوقية قديمة، دون أن يوضح سبب الزيادة بهذا الشكل الكبير. وبعد أسبوع فقط، أي يوم 30 يوليوز، عاد الجيش وطلب استعادة المبلغ من حساب الشركة السنغالية، مبررا ذلك بأن الدفع تم بالأوقية، في حين أن الاتفاق ينصّ على الدفع بالأورو.
وقد كان لافتا أن الجيش ألغى صفقته مع الشركة السنغالية دون أن يقوم بسحب الضمان الذي كان قد أودعه وفقا لما ينص عليه القانون، كما لم يتخذ أي إجراءات تدلُّ على حصول مخالفات استدعت إلغاء الصفقة.
مسؤول في الشركة السنغالية Fortunes Capital أكّد لوكالة الأخبار أن الجانب الموريتاني انسحب من الصفقة بعد أن كانت قيد التنفيذ، وبعد أن وقّعت شركته عقودا مع مورّدين دوليين، منبها إلى أن عقد شركته الأصلي كان موقّعًا مع قائد الأركان العامة للجيوش، في حين أن المشروع ممول رسميًا من وزارة الصحة.
ولفت المصدر السنغالي إلى أن إسلمو ولد الغزواني، أخ الرئيس الحالي، ساهم في حصول شركته على الصفقة، لافتا إلى أن عمولته كانت في حدود 200.000 أورو، وفق المصدر السنغالي، مضيفا أن الرئيس غزواني نفسه علم بانتزاع الصفقة منهم ومنحها للشركة المغربية دون أن يحرّك ساكنًا لرفع ما وصفه بالظلم عن أخيه وعن الشركة.
وأثناء وجود عقد ساري المفعول بين قيادة أركان الجيش الموريتاني، والشركة السنغالية Fortunes Capital، ودون أيّ إشارات بنيّة الموريتانيين إلغاء العقد، دخلت شركة مغربية تسمى T2S GROUP على خط الصفقة، وبدأت مفاوضات مع الموريتانيين للحصول عليها.
ووفق تسجيلات صوتية نقلتها الوكالة لمسؤولة في الشركة المغربية تدعى "حنان" فإن الشركة المغربية اتفقت مع الموريتانيين على تجهيز المركز الوطني للأنكولوجيا في نواكشوط، مؤكدة أنها التقت مسؤولين في وزارة الصحة، وكذا مديرة مركز الأنكولوجيا بنينة بنت زين، إضافة للعقيد حمود حماده، والذي وصفته بأنه من ضمن من ساعدهم في الحصول على الصفقة.
أما رئيس الشركة المغربية عبد الرؤوف سوردو، فيؤكّد في تسجيل صوتي نقلته الوكالة أن مفاوضاتهم مع الطرف الموريتاني اكتملت في يوليو، لافتا إلى أنه زار نواكشوط منتصف يوليو وأنهى الاتفاق مع وزير الصحة ومديرة المركز الوطني للأنكولوجيا بنينة بنت زين، دون أي إشارة إلى الجيش الذي تولى توقيع العقد.
وقبل أيام قليلة، وقّع الجيش مجددا نفس الصفقة مع الشركة المغربية T2S GROUP، وبمبلغ 5.193.000 أورو، وهو مبلغ أقل من سقف صفقة شركة السنغالية الأصلية بقليل، لكن الفارق يقفز إلى نحو 3 ملايين أورو مع السعر بعد الملحق الذي وقّع مع الشركة السنغالية بتاريخ 29 إبريل 2025.
وهكذا، أتمّت T2S GROUP مفاوضاتها مع المسؤولين الموريتانيين لتوريد المعدات، إلا أن العقد الجديد اشترط دفع المبلغ كاملاً مقدمًا، خلافاً للصفقة السنغالية التي كانت تعتمد الدفع على دفعتين، كما أن الشركة المغربية ستورد أجهزة صينية بدلاً من الأجهزة الأوروبية التي كانت مخصصة في الصفقة الأصلية.
وأثارت الصفقة المستمرة منذ نحو عام عدة تساؤلات يرددها الجميع عن علاقة الجيش بشراء معدات تموّلها وزارة الصحة ولمصلحة مستشفيات مدنية؟ وكذا، السبب الفارق الكبير بين الصفقة السنغالية والمغربية؟ وهل يعود لعوامل عمولات أم اختلاف جودة المعدات؟ ولماذا تأخرت الدفعة الأولى للشركة السنغالية نحو سبعة أشهر؟ وما مبررات فسخ العقد مع الشركة السنغالية وعدم سحب الضمان المالي؟ ولماذا وافق الجيش على دفع مبلغ الصفقة كاملاً للشركة المغربية خلافاً للأعراف المعروفة بالدفع على دفعات؟.
وقال وزير الثقافة الناطق باسم الحكومة الحسين ولد مدو تعليقا على الصفقة، إن ضرورة السرعة في الحصول على أجهزة لصالح مركز الأنكولوجيا في نواكشوط دفع وزارة الصحة إلى اللجوء للجيش ومنحه صفقة اقتناء معدات طبية.
وأكد الوزير في مؤتمر صحفي أن مركز الأنكولوجيا يوجد فيه جهازان مهمان للمرضى، وأحدهما متعطل، والآخر متقادم، مشددا على أن هدف الصفقة، التي منحت للجيش، ومنحها لشركة سنغالية نهاية العام المنصرم، ثم سحبها منها ومنحها لشركة مغربية، "هدفها الأساسي وغايتها الأساسية هي التعاطي الفوري مع الإشكالات الصحية لمواطنينا".
ويتقاطع هذا الملف مع التحقيق الجاري في صفقة مختبر الشرطة الجنائي، حيث أحالت النيابة العامة بولاية نواكشوط الغربية ملف التحقيق في إنشاء المختبر الجنائي للشرطة الموريتانية إلى إدارة شرطة الجرائم الاقتصادية والمالية، وأمرت بالبحث والتحقيق مع المشمولين في القضية وإحضارهم، ومن بينهم شخصيات وازنة من أبرزها الجنرال المتقاعد مسقارو ولد أغويزي، المدير العام السابق للأمن الوطني. ومن المتوقع أن تبدأ الشرطة خلال الأيام المقبلة بالاستماع للمعنيين بالملف والتحقيق في حيثياته، بعد أن أظهرت التحقيقات دفع عمولات تجاوزت 2.5 مليون أورو.
وكان الملف قد وصل قبل أيام إلى الادعاء العام لدى المحكمة العليا، بعد أن أكملت الإدارة العامة للأمن الوطني تحقيقاتها في الصفقة، وفق ما أكده وزير الداخلية محمد أحمد ولد محمد الأمين أمام لجنة برلمانية الخميس الماضي، حيث أوضح أن إدارة الأمن اتخذت الإجراءات اللازمة بشأن الشق المتعلق بها، من دون الكشف عن طبيعة تلك الإجراءات.
وتعود جذور القضية إلى منتصف دجنبر 2024، حين تم الكشف عن أن تكلفة إنشاء المختبر تضاعفت بفعل عمولات بلغت نحو 2,5 مليون أورو ونصف مليون دولار.
وقد تلقى الوزير السابق سيدي ولد ديدي، ممثلاً عن مدير الأمن العام الجنرال مسقارو ولد اغويزي، نحو 1,5 مليون أورو ونصف مليون دولار، فيما تسلّم الوسيطان أحمد الشيخ والسني عبدات 300 ألف أورو لكل منهما.
وفي أكتوبر الماضي كشفت منظمة الشفافية الموريتانية الشاملة عن تفاصيل جديدة مدعومة بوثائق حول "فضيحة مختبر الشرطة"، مؤكدة أن تكاليف المشروع تضاعفت بسبب عمولات ووساطات غير قانونية خلال مراحل إبرام الصفقة بين الشرطة الوطنية وشركة بريطانية تُدعى Genomed ومديرها حسين أوغلو، وشركة تركية منفذة من الباطن هي Omega ومديرها سليمان كوجيت.
وأضافت المنظمة أن رئيسها محمد ولد غده عاد من تركيا ومعه وثائق أصلية تثبت تحويلات مالية مشبوهة إلى الوسطاء الموريتانيين، وقد تم تقديم هذه الوثائق مسبقًا إلى لجنة التحقيق التي شكلتها إدارة الأمن الموريتانية.




