حين تُوسّع وزارة الفلاحة المساحات المسقية بينما تعلن وزارة الماء حالة الطوارئ.. كيف يُصدّر المغرب مياههُ ويستورد طعامه؟
لم يعد السؤال في المغرب اليوم هو كيف نُطوّر فلاحتنا، بل كيف نُنقذ ماءنا قبل أن يفلت من بين أصابع الأرض، فخلف بريق الصادرات الزراعية التي بلغت مستويات قياسية ووراء الخطب الرسمية للحكومة التي تحتفي بـ "نجاح النموذج الفلاحي" تكشف الأرقام الصامتة عن قصة مقلقة لبلد فقد 965 ألف منصب شغل فلاحي في خمس سنوات فقط، وأصبح يستورد خبزه بينما يصدّر ماءه في شكل أفوكادو وبطيخ، ويعمّق زراعات تبتلع آلاف الأمتار المكعبة من المياه في مناطق لا تجد فيها القرى ما يكفيها للشرب.
وأفادت ورقة تحليلية صادرة عن المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة، بأن ما بُني خلال عقد ونصف من "المخططات الفلاحية" بما فيها المغرب الأخضر حقق قفزة اقتصادية لكنه فعل ذلك على حساب مورد حيوي ينهار بصمت في تناقض حاد بين صعود الفلاحة وسقوط الماء.
الورقة التحليلية التي تتوفر عليها "الصحيفة" قدمت تشريحا باردا، قاسيا، ودقيقا لنموذج فلاحي صنع نجاحه الاقتصادي فوق أرض تجفّ بصمت وفي زمن تُنذر فيه المؤشرات بأن المغرب دخل رسميا مرحلة "الفقر المائي المطلق".
وتكشف الورقة أن المسار الفلاحي استمر في التوسع بالسرعة نفسها، مستندا إلى زراعات موجهة للتصدير، تستهلك من الماء أكثر مما تمنحه الأرض، فمنذ عقود، أدارت الفلاحة المغربية ظهرها لثنائية هيكلية رسّختها الجغرافيا.
وفي مناطق الغرب واللوكوس وسوس-ماسة، نشأت فلاحة حديثة موجّهة للأسواق الخارجية تعتمد على السقي، وتستند إلى إرث سياسة السدود التي دشنها الملك الراحل الحسن الثاني في ستينيات القرن الماضي.
وعلى الجانب الآخر، امتدت فلاحة بورية معيشية، هشّة، محكومة بتقلبات المطر لا بخطط الدولة وهذا الانقسام الصامت ظلّ يحدد ملامح القطاع إلى حدود 2008، حين أُعلن عن "مخطط المغرب الأخضر" الذي ارتبط برئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش وهو وزيرا للفلاحة حيث وعد بقفزة نوعية تُخرج الفلاحة من تقلبات المناخ وتربطها بنموذج إنتاجي أكثر مردودية.
الوثيقة التحليلية، تعود إلى تلك اللحظة لتقول إنّ المخطط لم يولد في فراغ بل كان امتدادا لسلسلة مخططات سابقة منذ "مخطط السمنة الفلاحية" (1974–2020)، التي رافقها توسيع السدود ودعم الزراعات الوطنية، لكن دون بناء رؤية حقيقية لدمج الفلاحة التقليدية ضمن سوق منظم.
ومع إطلاق "المغرب الأخضر" بدا أنّ الدولة تراهن على ركيزتين هما فلاحة عصرية ذات قيمة مضافة عالية، وفلاحة تضامنية لمواكبة الفلاحين الصغار فيما وبعد أعوام قليلة، كانت لغة الأرقام تتحدث بقوة إذ تضاعف الاستثمار ليبلغ 104 مليارات درهم بين 2008 و2018، وارتفعت الصادرات إلى 3.1 مليون طن في موسم 2018-2019، فيما توسعت المساحات المسقية بالري الموضعي من 210 آلاف هكتار إلى 600 ألف هكتار.
لكن خلف هذه المؤشرات، تكشف الورقة أن الاختلالات البنيوية لم تتضاءل بل تحولت إلى فجوات أعمق فالدعم الموجه نحو السقي الموضعي وهو حجر الزاوية في سياسة ترشيد الماء عرف اختلالات تقنية ومالية وفق الوثيقة، كما جرى استعمال مخصصات قديمة وإعادة تسويقها إعلاميا كتحفيزات جديدة.
والأهم أن الإعانات لم تُحدث التحول النوعي الموعود، بل أصبحت في بعض الحالات غير فعالة على الأرض، بينما استفادت منها أساسا الفلاحة العصرية بقدرتها على الاستثمار والولوج إلى منظومة الدعم وفي الوقت نفسه، تكرّست الفوارق بين فلاحة التصدير المزدهرة والفلاحة المعاشية التي ازدادت هشاشة مع توالي سنوات الجفاف.
ثم جاءت 2020، ومعها "استراتيجية الجيل الأخضر" وهنا الوثيقة تصف الاستراتيجية الجديدة بوصفها محاولة تصحيح اجتماعي يروم إدماج الشباب وتكوين طبقة فلاحية وسطى وتعزيز الاستدامة والرقمنة فالأهداف طموحة وهي تمكين 400 ألف أسرة من الولوج إلى الطبقة الفلاحية الوسطى، خلق 350 ألف فرصة عمل للشباب، وتعميم تقنيات الري المقتصد للماء.
غير أنّ التنفيذ، كما تقول الورقة اصطدم بثلاثة جدران هي جائحة عالمية أثّرت على التمويل، موجات جفاف متتالية قلّصت المساحات المنتجة، وفجوة اجتماعية لم تُغلق بل اتسعت ورغم المشاريع الميدانية التي أطلقت في إطار الاستراتيجية، بقيت البنية المائية المنهكة عاملا يقوّض كل محاولات بناء نموذج مستدام.
عند هذه النقطة، تكشف الورقة عن الرقم الأكثر صدمة وهو أنه بين 2018 و2023، فقد المغرب 965 ألف منصب شغل فلاحي وهذا الرقم، في قطاع يشغل 27,8% من اليد العاملة الوطنية، يعيد طرح سؤال مدى قدرة الفلاحة على لعب دورها التاريخي كحامل للتوازن الاجتماعي في العالم القروي وهو ما يعني أن النموذج الذي نجح في خلق دينامية تصديرية لم ينجح في خلق دينامية اجتماعية موازية والأكثر من ذلك، تبيّن الوثيقة أن هذه الخسارة مرتبطة بتراجع الزراعات البورية وتدهور الموارد المائية وتفاقم الهجرة القروية.
في جانب الأمن الغذائي، تقدم الورقة معطيات تُعد بمثابة تحذير استراتيجي فالمغرب رغم الاستثمارات الضخمة، لا يزال يعتمد بشكل كبير على استيراد الحبوب، حيث يتجاوز حجم الواردات في سنوات الجفاف حجم الإنتاج المحلي.
ويُظهر تحليل الأرقام أن الأسواق العالمية باتت تؤثر بشكل مباشر على القدرة الاستهلاكية للمغاربة، وأنّ التبعية الغذائية لم تعد مجرد احتمال بل واقعا موثقا.
وتخلص الوثيقة إلى أنّ "لا سيادة غذائية بلا سيادة مائية" وهي جملة تحمل جوهر الإشكال لكن صورة الأزمة المائية تصبح أكثر وضوحا عند التطرق إلى مفهوم "تصدير الماء الافتراضي" فالورقة تكشف أن الزراعات الموجهة للتصدير، وعلى رأسها الأفوكادو والبطيخ الأحمر، تستهلك كميات هائلة من المياه في مناطق تعاني أصلا من الإجهاد المائي فالهكتار الواحد من الأفوكادو يستهلك 8000 متر مكعب سنويا، بينما يحتاج الكيلوغرام الواحد إلى 1000 لتر من الماء. والبطيخ الأحمر بدوره يستهلك بين 3800 و4300 متر مكعب للهكتار.
هذه الزراعات ليست منتشرة في المناطق الرطبة، بل في أحواض منهكة مثل سوس-ماسة وزاكورة والحوز، حيث الطلب على الماء يفوق بكثير القدرة الطبيعية للفرشات الباطنية على التجدد.
وتشير الورقة إلى أنّ هذا الاستنزاف تجاوز الحدود الطبيعية في أكثر من منطقة، ما أدى إلى انخفاض خطير في مستوى الفرشات الجوفية، وتراجع مياه الشرب في القرى، وتصاعد موجات الهجرة القروية.
إنّها "الهجرة المائية" كما تسميها بعض الأوساط، والتي بدأت تعيد تشكيل توزيع السكان داخل المغرب وما يزيد من خطورة الوضع أنّ نصيب الفرد من المياه انخفض من 2500 متر مكعب في الستينيات إلى أقل من 500 متر مكعب حاليا، ليصبح المغرب رسميا تحت خط الفقر المائي المطلق.
ووسط هذه التحديات الوجودية، تبرز أزمة التنسيق المؤسساتي. فوزارة الفلاحة تستمر في توسيع المساحات المسقية وتشجيع الزراعات التصديرية، بينما تعلن وزارة الماء حالة الطوارئ المائية.
غياب التنسيق بين السياسات يجعل إحدى الوزارتين تحاول بناء نموذج فلاحي مائي، فيما تكافح الأخرى لحماية ما تبقى من الماء وهنا الورقة تؤكد أن غياب حكامة مائية صارمة وموحدة يعمّق الأزمة، خصوصا في ظل غياب تقييم دوري مستقل لمدى التزام المشاريع الفلاحية بالاستدامة.
وإلى جانب الإكراهات المائية، تتوقف الورقة عند اختلالات العدالة المجالية والاجتماعية فالمناطق البورية، التي تعتمد على الأمطار وتضم أغلبية الفلاحين الصغار، لم تستفد بما يكفي من الدعم، في حين حظيت مناطق السقي والبنية التحتية المتطورة بنصيب الأسد من المشاريع.
ومع تزايد الجفاف، أصبح الفلاح البوري يعيش خارج النموذج الاقتصادي الرسمي تقريبا، ما أدى إلى توسع الهشاشة الاجتماعية والانقطاع التدريجي للأنشطة التقليدية التي كانت تشكل أساس الاقتصاد القروي.
الصورة التي ترسمها الورقة ليست سوداوية بقدر ما هي واقعية فهي تعترف بأن "المغرب الأخضر" حقق قفزة نوعية في التصدير وتطوير سلاسل القيمة وتحديث التقنيات، لكنها تشدد أن هذه المكاسب جاءت على حساب الموارد الطبيعية والأمن الغذائي، وأنّ أي استمرار في النهج نفسه سيحوّل الأزمة من مشكلة قطاعية إلى أزمة وجودية.
أما على مستوى الاستشراف، فتقترح الوثيقة مسارا بديلا يقوم على إعادة توجيه الدعم العمومي نحو الزراعات الغذائية، وترشيد استعمال الماء عبر منع الزراعات المفرطة الاستهلاك في المناطق الجافة، وتسريع تحلية مياه البحر وربطها بإعادة توزيع الاستعمالات الفلاحية، إلى جانب دعم التعاونيات، وإعادة تقييم المراعي والماشية، وتعزيز التنسيق الحكومي في السياسات المائية والفلاحية.
وتصبح هذه التوصيات أكثر إلحاحا حين تربطها الورقة بخلاصة نهائية تقول فيها إن المغرب بحاجة إلى الانتقال من منطق "الإنتاج بأي ثمن" إلى منطق "الإنتاج المستدام" حيث السيادة المائية شرط مسبق لأي سيادة غذائية.
وفي هذا المشهد المركّب، تبدو الفلاحة المغربية وكأنها تسير على حافة مفارقة مستمرة فالقطاع يحقق المكاسب ويعمّق في الآن نفسه هشاشة الأرض التي تحتضنه وإذا كان من درس تقدمه هذه الورقة، فهو أنّ مستقبل الفلاحة في المغرب لن يُحسم في الأسواق ولا في مواسم التصدير بل سيُحسم في قدرة البلد على حماية آخر قطرة ماء في فرشاته الباطنية فبدون ماء، لا وجود لا لفلاحة ولا لتنمية ولا حتى لقرى تستطيع الوقوف على أرجلها.




