د.محمد كرواوي
الأربعاء 17 دجنبر 2025 - 21:50

النفق المغربي الإسباني.. ربط جغرافي أم إعادة تموضع سياسي  في غرب المتوسط 

لم يعد النفق المغربي الإسباني مجرد فكرة تقنية تعود إلى الواجهة كلما استدعت الحاجة إلى استعراض مشاريع كبرى عابرة للحدود، بل تحول إلى مؤشر دال على مرحلة جديدة في التفكير الاستراتيجي داخل غرب المتوسط. فالمسألة لم تعد مرتبطة بإمكانية الحفر تحت مضيق جبل طارق، ولا بصعوبات جيولوجية يعرفها الخبراء منذ عقود، وإنما بطبيعة الموقع الذي يسعى المغرب إلى تثبيته داخل معادلة إقليمية تشهد إعادة توزيع للأدوار والنفوذ.

يأتي هذا المشروع في لحظة دولية مضطربة، حيث تعيد أوروبا مراجعة كثير من مسلماتها القديمة. أزمات متلاحقة، من الجائحة إلى الحرب في أوكرانيا، كشفت هشاشة سلاسل التوريد الطويلة، وأعادت الاعتبار لمنطق القرب الجغرافي والتكامل الإقليمي. وفي هذا السياق، لم يعد جنوب المتوسط فضاء خارجيا، بل صار امتدادا حيويا للأمن الاقتصادي الأوروبي. هنا يبرز المغرب، لا باعتباره جاراً جنوبيا فحسب، بل باعتباره نقطة ارتكاز محتملة في إعادة تنظيم هذا الفضاء.

خلال العقدين الأخيرين، راكم المغرب عناصر قوة مادية لا يمكن تجاوزها في أي حساب استراتيجي جدي. موانئ ذات قدرة استيعابية عالمية، في مقدمتها طنجة المتوسط، شبكات نقل حديثة، تموقع صناعي متقدم في قطاعات مرتبطة مباشرة بالسوق الأوروبية، وانفتاح متزايد على العمق الإفريقي.

هذه المعطيات غيرت موقع المغرب داخل سلاسل القيمة الإقليمية، ورفعت من وزنه التفاوضي في علاقته مع شركائه الأوروبيين. من هذا المنظور، لا يمكن قراءة مشروع النفق باعتباره مبادرة معزولة، بل امتدادا منطقيا لمسار طويل من إعادة التموضع.

الربط القاري الدائم بين إفريقيا وأوروبا، إذا تحقق، سيؤسس لمرحلة جديدة من التكامل الاقتصادي. فالدراسات تشير إلى أن تقليص زمن نقل البضائع وكلفة اللوجستيك سيكون له أثر مباشر على قطاعات صناعية حساسة للزمن، مثل صناعة السيارات والمكونات الصناعية الدقيقة.

والمغرب، الذي بات من بين أبرز المصدرين في هذه المجالات، قد يجد في هذا الربط أداة لتعميق اندماجه الصناعي بدل الاكتفاء بموقع المناولة أو التجميع. هنا لا يتعلق الأمر بزيادة حجم التبادل فقط، بل بإعادة تحديد موقع الإنتاج ذاته داخل الفضاء المتوسطي.

غير أن البعد الاقتصادي لا يستنفد دلالة المشروع. فالبنية التحتية الكبرى، في السياسة، ليست مجرد أدوات تقنية، بل تجسيد لرؤية بعيدة المدى. النفق، بوصفه ربطا دائما لا يخضع لتقلبات الملاحة البحرية ولا لعوامل الطقس، يحول العلاقة بين الضفتين من اتصال قابل للتعطيل إلى ارتباط بنيوي.

والارتباط البنيوي يرفع كلفة القطيعة، ويفرض على الأطراف إدارة الخلافات بمنطق أكثر عقلانية، لأن المصالح تصبح متشابكة في العمق لا على مستوى الظرفيات.

في المقابل، تطرح فكرة النفق تخوفات مشروعة. فالتجارب الدولية تظهر أن مشاريع الربط الكبرى قد تتحول، في غياب سياسات مواكبة، إلى قنوات عبور تخدم الاقتصادات الأقوى دون أن تنتج قيمة مضافة حقيقية محليا. هذا السيناريو لا يمكن تجاهله. غير أن السياق المغربي يختلف عن كثير من الحالات المشابهة.

فالمغرب لا يدخل هذا النقاش من موقع الهشاشة أو الارتهان، بل من موقع يمتلك فيه بدائل استراتيجية، وشبكة شراكات متنوعة، وعمقا إفريقياً متناميا يمنحه هامشا أوسع لفرض شروط الإدماج المحلي ونقل القيمة.

ويزداد تعقيد المشروع حين ننتقل إلى مستواه السيادي. فإدارة ممر دائم تحت البحر بين دولتين ليست مسألة تقنية محضة، بل قرار سياسي ثقيل الكلفة وطويل الأمد. قضايا الأمن، والطوارئ، والنظام القانوني المنظم للعبور، لا تقل أهمية عن الحسابات الاقتصادية. لذلك، فإن النفق أقرب إلى معاهدة استراتيجية متعددة الأبعاد منه إلى ورش أشغال عمومية.

مجرد إعادة فتح الملف اليوم تعكس إدراكا متبادلا بأن العلاقة بين الرباط ومدريد دخلت مرحلة جديدة تتجاوز منطق التدبير الظرفي للأزمات.

ولا يمكن عزل هذا المشروع عن التنافس الإقليمي في غرب المتوسط. فالممرات الاستراتيجية، سواء تعلق الأمر بالطاقة أو التجارة أو الربط القاري، باتت محط سباق صامت بين دول تسعى إلى تثبيت مواقعها داخل خرائط النفوذ الجديدة. في هذا السياق، يمثل النفق رسالة سياسية بقدر ما يمثل مشروعا ماديا.

رسالة مفادها أن المغرب لا يقبل أن يبقى على هامش هذه الخرائط، بل يسعى إلى تثبيت نفسه كنقطة وصل مركزية بين قارتين. وفي السياسة الدولية، من يملك نقطة الوصل يملك هامشا أوسع للتأثير.

الخطاب الإسباني، بدوره، عرف تحولا لافتا خلال السنوات الأخيرة. فبعد فترات من التردد وسوء الفهم، بدأت مدريد تتعامل مع المغرب باعتباره شريكا استراتيجيا في قضايا تتجاوز الهجرة إلى الاقتصاد والطاقة والأمن. هذا التحول لم يكن نتيجة خطاب حسن نوايا، بل ثمرة وقائع فرضت نفسها على الأرض. وفي هذا الإطار، قد يشكل النفق تجسيدا ماديا لهذا التحول، شرط أن يدار بمنطق المصالح المتبادلة لا بمنطق الرمزية السياسية.

ومع ذلك، ينبغي التنبيه إلى أن المشروع، مهما بلغت أهميته، لا يصنع التحول وحده. قيمته الحقيقية تتحدد بالسياسات التي تحيط به. سياسة صناعية واضحة، شروط إدماج محلية صارمة، ربط المشروع بالتكوين ونقل التكنولوجيا، وإطار قانوني يحمي السيادة ويضمن توازن المصالح. دون ذلك، قد يتحول المشروع إلى عبء استراتيجي بدل أن يكون رافعة تموقع.

إن النفق المغربي الإسباني، في جوهره، ليس مسألة حفر تحت البحر، بل مسألة رؤية. رؤية لكيفية تحويل الجغرافيا من معطى ثابت إلى أداة قرار. حين تتحول الجغرافيا إلى عنصر فاعل في السياسة، يصبح المشروع جزءا من معادلة أوسع تعيد رسم موقع المغرب داخل غرب المتوسط، لا كجار تابع، بل كفاعل مركزي لا يمكن تجاوزه.

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة

القفطان.. وأزمة الهوية عند الجزائريين

طُويت معركة أخرى أرادت الجزائر أن تخوضها ضد المغرب، وهذه المرة ليس في مجلس الأمن بخصوص قضية الصحراء، بل داخل أروقة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، التي تعقد ...

استطلاع رأي

مع قُرب انطلاق نهائيات كأس إفريقيا للأمم "المغرب2025".. من تتوقع أن يفوز باللقب من منتخبات شمال إفريقيا؟

Loading...