نقض أم مخرج سياسي؟ الصحافي الفرنسي كريستوف غليز يطرق آخر أبواب القضاء الجزائري وسط توتر مكتوم بين "المرادية" و"الإليزي"
في لحظة قانونية توصف بأنها الفرصة الأخيرة قبل انسداد الأفق، لجأ الصحافي الفرنسي كريستوف غليز إلى الطعن بالنقض أمام القضاء الجزائري في محاولة لفتح ثغرة داخل جدار حكم قضائي ثقيل بالسجن سبع سنوات، أُكد في الاستئناف وأثار منذ صدوره موجة استنكار واسعة داخل الأوساط الصحافية والحقوقية والدبلوماسية في فرنسا وخارجها.
خطوة إجرائية تبدو في ظاهرها، تقنية وقانونية بحتة لكنها في العمق تحمل أبعادا سياسية ودبلوماسية معقدة، إذ تعيد إلى الواجهة سؤال استقلال القضاء، وحدود العمل الصحافي، وكلفة التوترات الثنائية حين تنعكس مباشرة على الأفراد.
وتعود تفاصيل القضية التي بدأت في ماي 2024، حين دخل غليز الجزائر لإنجاز تحقيق صحافي حول نادي شبيبة القبائل، وسرعان ما خرجت من إطارها الإعلامي لتتحول إلى ملف أمني-قضائي بالغ الحساسية.
الصحافي المتعاون مع مجلتي So Foot وSociety لم يكن، بحسب روايته ورواية مؤسسات حقوقية دولية، سوى مراسل يؤدي مهمة صحافية في منطقة لطالما كانت محل توتر سياسي وهوياتي غير أن السلطات الجزائرية رأت في اتصالاته الميدانية ضمن سياق عمله روابط مع أشخاص محسوبين على حركة "الماك" القبائلية المصنفة "تنظيما إرهابيا" في الجزائر، لتُبنى المتابعة على تهمة "تمجيد الإرهاب" إحدى أكثر التهم ثِقلا في الترسانة القانونية الجزائرية.
تثبيت الحكم في الاستئناف من طرف محكمة تيزي وزو في 3 دجنبر الجاري لم يُنهِ الجدل، بل فاقمه، فسبع سنوات سجنا نافذا بحق صحافي أجنبي في قضية تتقاطع فيها السياسة مع الإعلام، بدت في نظر كثيرين عقوبة مفرطة وغير متناسبة وهو توصيف تبناه علنا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حين وصف الحكم بـ"غير العادل" و"المبالغ فيه" في موقف نادر الصراحة يعكس حجم الإحراج الذي تسببه القضية للإليزيه في لحظة تسعى فيها باريس إلى إعادة ترميم علاقتها المتصدعة مع الجزائر.
الطعن بالنقض، الذي سجّله محاميا غليز في آخر يوم يسمح به القانون، لا يفتح تلقائيا باب محاكمة جديدة لكنه يضع الملف أمام أعلى هيئة قضائية ويفرض إعادة فحص المسطرة من زاوية قانونية خالصة هي احترام حقوق الدفاع، سلامة التكييف القانوني، وصحة الإجراءاتلاغير أن التجارب السابقة تُظهر أن النقض، في قضايا ذات حمولة سياسية، غالبا ما يظل إجراء شكليا أكثر منه مسارا فعليا لتغيير جوهري في الأحكام.
لهذا السبب، لا يخفي محيط الصحافي أن الرهان الحقيقي بات سياسيا أكثر منه قضائيا فأقاربه يضعون آمالهم في عفو رئاسي من الرئيس عبد المجيد تبون، وهو خيار استخدمته الجزائر سابقا في ملفات حساسة كما حدث مع الكاتب بوعلام صنصال، الذي أُفرج عنه في نونبر الماضي في خطوة فسّرها مراقبون آنذاك كبادرة تهدئة تجاه باريس غير أن الفارق الجوهري أن قضية غليز تتصل مباشرة بملف "الماك" أحد أكثر الملفات حساسية في الداخل الجزائري، ما يجعل هامش المناورة أضيق.
وكانت منظمة "مراسلون بلا حدود" قد وصفت الحكم بـ"العبثي" معتبرة أن غليز لم يقم سوى بعمله وهو توصيف يتردد صداه داخل أوساط إعلامية فرنسية ترى في القضية رسالة ردعية تتجاوز شخص الصحافي، وتمس حرية التغطية في مناطق النزاع أو التوتر فأن يكون غليز الصحافي الفرنسي الوحيد المعتقل حاليا في الخارج يضفي على قضيته بعدا رمزيا ويحوّلها إلى اختبار حقيقي لقدرة الدبلوماسية الفرنسية على حماية مواطنيها، دون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة مع الجزائر.
وتحولت القضية في نهاية المطاف، من قصة صحافي خلف القضبان إلى مرآة لعلاقة فرنسية - جزائرية ما تزال رهينة الذاكرة، والسياسة، وحسابات السيادة.




