الدولة تنتصر في معركة التحكيم الدولي.. إسقاط مطالب بـ283 مليون أورو أمام مركز منازعات الاستثمار يجنّب خزينة المغرب عبئا ماليا كبيرا
كشف تقرير الوكالة القضائية للمملكة برسم سنة 2024، عن نجاح الدولة المغربية في صدّ مطالب مالية ثقيلة تقدمت بها شركات أجنبية أمام هيئة التحكيم التابعة للمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (CIRDI) بعدما رفضت الهيئة التحكيمية بشكل كامل، مطالب بلغت قيمتها حوالي 283 مليون أورو أي ما يعادل نحو 3,042 مليارات درهم.
وفي عالم التحكيم الدولي، حيث تتحول النزاعات الاستثمارية إلى اختبارات قاسية لصلابة الدول القانونية وقدرتها على حماية مالها العام، يكتسي ما كشف عنه تقرير الوكالة القضائية للمملكة برسم سنة 2024 أهمية خاصة، ليس فقط بحكم الأرقام التي يتضمنها، بل أيضا بالنظر إلى ما يعكسه من رهانات سيادية ومالية ترتبط مباشرة بعلاقة الدولة المغربية بالمستثمرين الأجانب وبمنظومة تسوية منازعات الاستثمار الدولية.
التقرير، الذي صدر مؤخرا يضع في صلب خلاصاته تسجيل نتائج إيجابية في تدبير منازعات الدولة، ولا سيما تلك المرتبطة بنزاعات التحكيم الدولي ذات الأثر المالي الكبير على خزينة الدولة ويبرز أن سنة 2024 عرفت لجوء عدد من الشركات الأجنبية إلى تقديم مطالب مالية ضد الدولة المغربية أمام هيئة التحكيم التابعة للمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (CIRDI)، وهي الهيئة الأكثر حضورا في النزاعات التي تجمع بين الدول والمستثمرين، والأكثر إثارة للقلق بالنسبة للمالية العمومية حين تكون المطالب بمئات الملايين.
ورغم أن التقرير لا يكشف عن طبيعة المطالب المقدمة، ولا عن هوية الشركات المعنية ولا عن موضوع النزاعات، فإنه يورد معطى رقميا بالغ الدلالة يعكس حجم المخاطر الكامنة وراء هذه الملفات فقد أسفرت هذه المنازعات بحسب التقرير، عن صدور مقرر تحكيمي واحد همّ ملفا بلغت فيه قيمة المطالب المالية حوالي 283 مليون أورو، وهو مبلغ ثقيل بما يكفي ليشكل في حال الاستجابة له، عبئا مباشرا على خزينة الدولة في سياق تتقاطع فيه متطلبات الإنفاق الاجتماعي والاستثماري مع ضغوط الميزانية والتمويل.
غير أن النقطة الأكثر قوة في التقرير والتي تشكل زاويته الأكثر دلالة، تتمثل في أن الهيئة التحكيمية التابعة لـ(CIRDI) خلصت إلى رفض جميع المطالب المقدمة ضد الدولة المغربية بنسبة 100 في المائة وهو رفض كامل وشامل لم يفضِ إلى أي تعويض أو تسوية مالية، وهو ما اعتبره التقرير مكسبا مهما للدولة المغربية لما له من أثر مباشر في تجنيب المالية العمومية أعباء مالية جسيمة كانت ستُترجم إلى التزامات ثقيلة وطويلة الأمد.
ويربط التقرير هذا القرار بوصفه مجرد نتيجة قضائية تقنية تعكس نجاعة في المقاربة المعتمدة للدفاع عن مصالح الدولة المغربية في منازعات الاستثمار الدولية فالوصول إلى رفض كامل للمطالب أمام هيئة تحكيم دولية من وزن (CIRDI) يفترض، وفق منطق هذا النوع من النزاعات إعدادا قانونيا دقيقا وتنسيقا محكما بين مختلف المتدخلين واستيعابا عميقا لتفاصيل النزاع ولمقتضيات الاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
في هذا الإطار، يبرز التقرير الدور المحوري الذي تضطلع به الوكالة القضائية للمملكة، ليس فقط باعتبارها جهازا يتولى الدفاع القانوني عن الدولة، بل باعتبارها فاعلا مركزيا في تنسيق هذا الدفاع، وتكريس الأمن القانوني، وحماية المال العام من المخاطر المرتبطة بالتحكيم الدولي فهذه النزاعات، كما يوحي التقرير لم تعد تهم قطاعا بعينه أو عقدا معزولا بل باتت تمس في العمق مصداقية الدولة القانونية، وصورة التزاماتها الدولية، وقدرتها على فرض احترام اختياراتها السيادية داخل منظومة استثمار عالمية شديدة التعقيد.
ويكتسب هذا المعطى بعدا إضافيا حين يُستحضر السياق الدولي العام، الذي شهد خلال السنوات الأخيرة تصاعدا في عدد دعاوى التحكيم المرفوعة ضد الدول، خاصة تلك التي انخرطت في سياسات إصلاحية أو مراجعات تشريعية تمس مجالات الاستثمار. ففي مثل هذه الحالات، تتحول التحكيمات الدولية إلى أدوات ضغط مالي وقانوني قد تُستخدم للطعن في قرارات تنظيمية أو سياسات عمومية وهو ما يجعل كل نزاع أمام (CIRDI) رهانا يتجاوز الملف نفسه ليطال النموذج القانوني والاقتصادي للدولة.
ورغم أن التقرير لا يفصح عن تفاصيل الملفات ولا عن طبيعة القطاعات المعنية، فإن الرقم المعلن أي 283 مليون أورو من المطالب المرفوضة، يكفي لإبراز حجم الرهانات التي واجهتها الدولة المغربية خلال سنة 2024 فرفض مطالب بهذا الحجم لا يعني فقط تجنيب الميزانية خسارة آنية، بل يبعث أيضا رسالة ضمنية إلى الفاعلين الاقتصاديين الدوليين حول صلابة الموقف القانوني للدولة وقدرتها على الدفاع عن نفسها داخل آليات التحكيم الدولي.
من هذا المنظور، يمكن قراءة تقرير الوكالة القضائية للمملكة لسنة 2024 بوصفه وثيقة تعكس جانبا من "الدفاع الصامت" عن المال العام، دفاع لا يظهر في الخطابات السياسية ولا في النقاش العمومي اليومي، لكنه يتجسد في قاعات التحكيم الدولية، حيث تُحسم نزاعات بمئات الملايين، وتُختبر فيها فعليا نجاعة المؤسسات وقدرتها على حماية المصالح العليا للدولة.
وبينما يخلص التقرير إلى إبراز هذه الحصيلة الإيجابية فإنه يؤكد، بشكل غير مباشر، أن التحكيم الدولي سيظل أحد أبرز التحديات القانونية والمالية التي تواجه الدولة المغربية في السنوات المقبلة، في ظل اتساع شبكة التزاماتها الاستثمارية الدولية وهو ما يجعل من دور الوكالة القضائية للمملكة، كما يعكسه تقرير 2024، عنصرا حاسما في معادلة الأمن القانوني وحماية المال العام، في زمن باتت فيه النزاعات الاستثمارية إحدى أكثر الكلف الخفية للانفتاح الاقتصادي.
وفي هذا الإطار، أوضح محمد كينون، الخبير في التحكيم الدولي وتسوية منازعات الاستثمار أن "الرفض الكامل لمطالب استثمارية أمام هيئة تحكيم من وزن المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ليس أمرا شائعا لأن هذا النوع من المنازعات ينتهي،في الغالب، إلى حلول وسط أو تعويضات جزئية تُبقي على حدّ أدنى من مسؤولية الدولة".
وأبرز كينون في حديثه لـ "الصحيفة" أنه "حين تصل الهيئة إلى رفض جميع المطالب، فهذا يعني أن منطق الدعوى قد جرى تفكيكه من جذوره سواء على مستوى الاختصاص أو على مستوى الأساس القانوني للمطالب، أو من حيث إثبات الضرر والعلاقة السببية".
ويضيف الخبير، أن هذا النوع من القرارات يعكس عادة، اشتغالا قانونيا استباقيا لا يقتصر على الدفاع داخل قاعة التحكيم، بل يبدأ من طريقة صياغة العقود وتأطير السياسات العمومية واحترام المساطر المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية لحماية وتشجيع الاستثمار كما يحمل دلالة مهمة مفادها أن الدولة المعنية لا تُنظر إليها كطرف ضعيف داخل منظومة التحكيم الدولي، بل كفاعل قادر على فرض قراءة قانونية متماسكة لالتزاماته.
ويرى الخبير أن مثل هذه الأحكام تكتسي بعدا يتجاوز النزاع المعروض، لأنها تؤثر في سلوك المستثمرين مستقبلا، وتحدّ من النزوع إلى استعمال التحكيم الدولي كأداة ضغط أو كرهان مالي مضمون فحين تتأكد الشركات من أن اللجوء إلى التحكيم لا يعني تلقائيا ربح الدعوى وأن الدولة قادرة على الدفاع عن قراراتها التنظيمية والسيادية فإن ميزان المخاطر يتغير، ويصبح التحكيم خيارا محسوبا بدل أن يكون وسيلة ابتزاز قانوني.
ويخلص كينون، إلى أن أهمية هذه النتيجة لا تكمن فقط في تفادي خسارة مالية محتملة بل في تكريس مناخ من الأمن القانوني يوازن بين حماية الاستثمار واحترام حق الدولة في تنظيم سياساتها العمومية دون أن تتحول كل مراجعة أو إصلاح إلى تهديد مالي أمام هيئات التحكيم الدولية.




