الجاسوسية و"اللعب على الحبال" والنهاية الغامضة.. هل تُحول حرب المخابرات قصة بنبركة إلى نسخة جديدة من لغز أشرف مروان؟

 الجاسوسية و"اللعب على الحبال" والنهاية الغامضة.. هل تُحول حرب المخابرات قصة بنبركة إلى نسخة جديدة من لغز أشرف مروان؟
الصحيفة – بديع الحمداني
الأربعاء 29 دجنبر 2021 - 22:03

بالنسبة للكثير من اليساريين المغاربة لا يُمكن لأي زعيم يساري أن يصل إلى رمزية المهدي بن بركة، الرجل الذي تنازل عن كل ما يمكن أن يحمله إليه قربه من الملك الحسن الثاني من مزايا ونفوذ، واختار النهج "الثوري" في مواجهة نظام ملكي كان يمسك بزمام كل السلط في مغرب ما بعد الاستقلال، لدرجة أن هذه "المواجهة" انتهت بفقدانه لحياته، لذلك فإن المس بـ"أسطورية" الرجل الذي يراه كثيرون المؤسس الحقيقي للتيار اليساري في المغرب، يُواجه دائما بالكثير من المقاومة والهجوم المضاد.

لكن ما نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية بتاريخ 26 دجنبر 2021، لا يمثل مجرد "مساس" برمزية بن بركة، بل يصل حد محاولة محوها نهائيا، ذلك أن تحويل أشهر معارض للملك الراحل الحسن الثاني إلى "جاسوس" يتقاضى أموالا من تشيكوسلوفاكيا لقاء معلومات كان يسلمها لـجهاز مخابراتها تحت اسم مستعار، أمر يدخل في باب "جرائم "الاغتيال المعنوي" الأمر الذي تحدثت عنه بشكل صريح نبيلة منيب، الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد التي كتبت "بعد اغتياله وإخفائه جسديا، يحاولون اغتيال ذكراه معنويا".

وبغض النظر عن ردود فعل اليساريين المغاربة، فإن ما نشرته الغارديان انطلاقا من شهادات المؤرخ والأستاذ الجامعي التشيكي جان كورا، الذي قال إنه اطلع على 1500 صفحة من وثائق جهاز المخابرات التشيكوسلوفاكي التي خرجت من دائرة السرية، يستحق التساؤل ليس فقط حول مدى دقته، ولكن أيضا حول ما إذا كان بنبركة قد "أساء اللعب على الحبال" حتى وقع في المحظور، لتكون نهايته الغامضة أشبه بنهاية رجل الأعمال والدبلوماسي المصري أشرف مروان.

معلومات مقابل المال

والملف الذي نشرته الغارديان ليس تحقيقا صحافيا، وإنما مادة استندت إلى بحث أنجزه الأستاذ الجامعي المساعد في جامعة تشارلز بالعاصمة التشيكية براغ، جان كورا، انطلاقا من وثائق سرية لجهاز الأمن التشيكوسلوفاكي STB، والمثير في الأمر هو أن الفترة التي يتحدث عنها الملف تنطلق من سنة 1960، أي في السنة الموالية لاستقالة ابن بركة من اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال وبعد رحلته الطويلة التي انطلقت من فرنسا وقادت للعديد من دول المعسكر الشرقي، أبرزها الصين ومصر.

وحسب المصدر نفسه، فإنه في 1961، السنة التي سيموت فيها محمد الخامس وسيتولى فيها الحسن الثاني مُلك المغرب رسميا، سيتلقى ابن بركة من جهاز المخابرات التشيكوسلوفاكي 1000 فرنك فرنسي، نظير تسليمه تقارير حول المغرب قال إنها وثائق داخلية صادرة عن المخابرات الفرنسية، لكن اتضح فيما بعد أنها لم تكن وثائق سرية وأنها كانت متاحة للجميع، لكن مع ذلك عرض عليه الجهاز مهمة أخرى، وهي السفر إلى غينيا الاستوائية لجمع معلومات استخباراتية حول نشاط الأمريكي هناك.

وتقول الوثائق إن ابن بركة وافق على عرض من براغ للمساعدة في التأثير على قادة وسياسيي الدول الإفريقية مقابل 1500 جنيه إسترليني سنويا، بالإضافة إلى تلقيه 250 جنيها مقابل توفير معلومات لمخابراتها حول الانقلاب الذي حدث في العراق سنة 1963، كما أنه استغل علاقته الشخصية بالرئيس الجزائري أحمد بن بلة ليوصل إلى تشيكوسلوفاكيا معلومات عن البلد المستقل حديثا.

اللعب على الحبال

لكن وجه الشبه بين ابن بركة وأشرف مروان يبدو واضحا أكثر عند الحديث عن دخول الاثنين عالما متشعبا من العلاقات وجدا أنفسهما ملزمين فيه بـ"اللعب على الحبال"، وإن كان الأول "عدوا" صريحا للنظام الحاكم والثاني أحد أبرز وجوه، فإن ذلك لا يمنع من أنهما اختارا الابتعاد عن "الطريق السهل" وعبور "طريق الشوك" الذي جعلهما في نهاية المطاف متهمين بـ"الجاسوسية" سواء كانت تلك الاتهامات صحيحة أم مبالغا فيها.

فأشرف مروان كان زوج "منى" ابنة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، لكن هذا الأخير قرر وضعه تحت رقابة سكرتيره الخاص سامي شرف، قبل أن يتوجه إلى بريطانيا سنة 1969 ليُكمل دراسته هناك، هناك أضبح يُعلن تذمره داخل المجالس المُغلقة من توجه حماه إلى الاتحاد السوفياتي عوض الولايات المتحدة الأمريكية، أما ابن بركة، فكان رجل ثقة الحسن الثاني ومُعلمه مذ كان وليا للعهد، وبعد الاستقلال أصبح رئيسا للمجلس الوطني الاستشاري، لكنه كان يسعى إلى نظام حكم بعيدا عن الملكية التنفيذية بحيث تنتقل السلطات عمليا إلى من يد الملك إلى يد "الشعب"، وهو ما أدخله في خلاف تحول إلى صدام مع القصر.

حمِّل تطبيق الصحيفة الآن: IOS Android

وفي الوثائق التشيكية، تبرز أكثر قضية "اللعب على الحبال" في حكاية ابن بركة، إذ يقول جان كورا عن المعارض المغربي "كان رجلا يلعب في العديد من المساحات، وكان يعرف الكثير ويعي أن المعلومات كانت ذات قيمة كبيرة في زمن الحرب الباردة، إنه انتهازي كان يلعب لعبة خطيرة جدا"، وليستدل على ذلك يكشف الأستاذ التشيكي عن وثيقة تظهر كيف أن مخابرات تشيكوسلوفاكيا نفسها توصلت سنة 1962 إلى معلومات تفيد بأنه جالسا مسؤولا نقابيا أمريكيا في حانة بباريس وتلقى منه شيكا كُتبت قيمته بالدولار، ما خلف شكوكا حول كون ابن بركة، الذي كان يحمل الاسم الحركي "الشيخ" كان عميلا لواشنطن أيضا، وهو ما ووجه به هذا الأخير لكنه نفاه بشدة.

بل أكثر من ذلك، فإن الرجل أيضا، وفق كورا، كان متعاونا مع أجهزة المخابرات السوفياتية، فعندما وصل إلى القاهرة كانت مهمته هي جمع المعلومات عن كبار المسؤولين المصريين، وهو ما نجح فيه، حيث إن الملف التي قدمه كان مُفيدا جدا لرئيس الوزراء السوفياتي نيكيتا خروتشوف ولأجهزة المخابرات، لتُكافئه موسكو على ذلك بدعوته رفقة أبنائه الأربعة لقضاء عطلة في منتجع فاخر.

أما أشرف مروان، فإن "ولاءه" أيضا كان محل شك من الجميع، فمن جهة تقول مذكرات الضابط الإسرائيلي "دوبي" التي نشرتها بداية العام الماضي صحيفة "هآرتس"، إنه هو من عرض خدماته على جهاز "الموساد" الإسرائيلي مقابل المال وأن المعلومات التي قدمها تحت اسمه الحركي "بابل" كانت قيمة جدا، لدرجة أنه كان قد أخبر الإسرائيليين بموعد الضربة الأولى لحرب أكتوبر 1973 لولا أن رئيسة الوزراء حينها، غولدا مائير، تعامل معها بتشكيك واستخفاف.

ومن ناحية أخرى فإن الرواية المصرية الرسمية تتحدث عن "رجل وطني" وعن أحد "أبطال" حرب 1973، لدرجة أن الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك نفى بنفسه عنه تُهمة العمالة، أما الإعلام المُقرب من النظام فلا زال إلى اليوم يتحدث عن أن الأمر كان يتعلق بـ"عميل مزدوج" وأن الرجل كان قريبا من الرئيس محمد أنور السادات بعد وفاة عبد الناصر إلى درجة أنه جعله سكريتيره الخاص وهو من كان "يوحي" إليه بما يجب "تسريبه" من معلومات.

رحيل يتحول إلى لغز

وفي نهاية المطاف، فإن الحكم الجازم حول مدى تورط ابن بركة ومروان في "الجاسوسية" أمر مُعقد بسبب اختلاف الرواية، لدرجة أنه في حالة المعارض المغربي لا يعتبر كثيرون أن ما قام به يدخل أساسا في نطاق العمالة، لدرجة أن ابنه البشير بن بركة قال لأسبوعية "الأوبزيرفر" البريطانية إن علاقة والده مع دول في المعسكر الاشتراكي "متوقعة من أي شخص يشارك بعمق في النضال العالمي ضد الإمبريالية والاستغلال الاستعماري"، بل إن الوثائق التي تستند إليها الاتهامات قد تكون "مُفبركة من طرف جهاز المخابرات".

لكن في جميع الأحوال، فإن هذا الطريق الغامض قاد الاثنين إلى نهاية لا تزال لغزا إلى اليوم، فابن بركة الذي كان قد اختار العيش في سويسرا انتقل بنفسه وعن طيب خاطر إلى باريس في 29 أكتوبر 1965 للقاء منتج سينمائي فرنسي كان يُفترض أن يناقش معه فيلما حول الحركات التحررية، قبل أن يطلب منه ضابط فرنسي وسط الشارع مرافقته للقاء أحد مستشاري الرئيس شارل ديغول، وهي اللحظة التي سيختفي فيها إلى الأبد.

أما أشرف مروان، فإنه ظل ينتقل من منصب لآخر في عهدي أنور السادات وحسني مبارك، إلى أن أصبح سفيرا لبلاده في لندن، ثم أحد أبرز رجال الأعمال المصريين، لكن وبشكل مُفاجئ، سيُعلن عن وفاته سنة 2007 إثر سقوطه من شُرفة شقته في لندن، ليُدفن بعد جنازة رسمية حضرها كبار رجال الدولة في مصر، دون أن تصل الشرطة البريطانية إلى غاية الآن إلى سيناريو وفاته الذي أكدت أنه لم يكن طبيعيا.

كل الأخبار في تطبيق واحد! حمِّل تطبيق الصحيفة الآن: IOS Android

آن الأوان للمغرب أن يدير ظهره كليا للجزائر!

لا يبدو أن علاقة المغرب مع الجزائر ستتحسن على الأقل خلال عِقدين إلى ثلاثة عقود مُقبلة. فحتى لو غادر "عواجز العسكر" ممن يتحكمون بالسلطة في الجزائر، فهناك جيل صاعد بكامله، ...