نُخبة "طريق زعير"!

 نُخبة "طريق زعير"!
الصحيفة - افتتاحية
الأربعاء 13 مارس 2024 - 15:31

في مقر أنيق وفسيح مثل قصور قرطبة زمن الأندلس، يجتمع في العاصمة المغربية الرباط ثلاثون شخصية "مثقفة" ممن يحملون الجنسية المغربية ومثلهم في العدد من الأجانب الأكاديميين والمثقفين وحاملي المعرفة ليشكلوا أعضاء أكاديمية المملكة المغربية الكائنة بشارع "محمد السادس" الراقي بطريق "زعير".

هذه النخبة التي تكلف تعويضاتها السنوية خزينة الدولة ما يزيد عن 250 مليون سنتيم، تجتمع بشكل دوري في أنشطة فكرية وثقافية وأكاديمية تخص النقاش العام والانشغالات الفكرية التي تجيب عن الأسئلة الحضارية المقلقة التي أنتجتها المتغيرات المتسارعة، والمساهمة في تحقيق التقدم الفكري والعلمي والثقافي للمملكة في ضوء المرجعيات الدستورية والتوجهات العامة للدولة، وكذا التعريف بمقوّمات الهوية الوطنية بكل مكوناتها وروافدها، ونشر القيم والمبادئ الكونية المرسِّخَة للحوار بين الثقافات والحضارات.

كلام جميل.. كلام مَعقول. لكن هل يكفي أن يجتمع نخبة من المثقفين ويتناقشوا فيما بينهم داخل فضاء راقٍ مليء برائحة التاريخ لتبادل الأفكار وقراءة العروض وطرح النظريات والفرضيات داخل قاعات شبه مغلقة للتحدث عن إشكاليات مجتمعية وثقافية لتحقيق تقدم فكري والإجابة عن الأسئلة الحضارية والتعريف بمقومات الهوية الوطنية ونشر قيمها؟

هل يستقيم أن يجتمع مفكرو المملكة ومثقفوها ممن أوكلت لهم مهمة المساهمة في تطوير وتعزيز البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية والثقافية والفنون وإنتاج فكر غني بالقيم التي يمكن من خلالها إغناء المجتمع المغربي وتصريف هويته وحضارته للعالم والتعريف بها داخل قاعات منفصلة يتحدث فيها المثقف مع المثقف ويجيب المثقف زميله المثقف ويخاطب الأكاديمي رفيقه الأكاديمي الجالس بقربه في عالمهم الخاص دون أن يخرج النقاش وخلاصته التي تطبعها الأكاديمية في مئات من الكتب "الأنيقة" بملايين الدراهم إلى عموم المغاربة لإغناء وعيهم الثقافي والحضاري بما ينتجه مثقفو المملكة؟

الحقيقة المتعبة في النقاش هي أن سياسة الأكاديمية الحالية ليست هي روح وفلسفة وأسس وأدبيات الفكرة التي على أساسها أنشأ الملك الراحل الحسن الثاني بتاريخ 8 أكتوبر 1977 أكاديمية المملكة المغربية، حيث كان الهدف هو الإسهام في الأعمال الرامية إلى التعريف بالموروث الفكري والثقافي والفني للحضارة المغربية والحضارات الإنسانية بمختلف تجلياتها، وذلك في إطار برامج ومشاريع خاصة أو مشتركة مع الهيئات والمؤسسات الوطنية أو الأجنبية أو الدولية التي تسعى إلى تحقيق أهداف مماثلة، وتنظيم ملتقيات وتظاهرات ومناظرات علمية وفكرية – وطنية وعالمية – بصفة دورية، من أجل تسليط الضوء على قضايا المجتمع المعاصر.

وكذا، الإسهام في تحليل أبعادها واستشراف آفاقها، في ظل التحولات التي تعرفها الحضارة المعاصرة، والإسهام في نشر الأعمال العلمية المتميزة – باسم الأكاديمية – وتشجيع العلماء والمفكرين والباحثين على إنتاج المعرفة وتداولها بكل السبل المتاحة. وأغلب هذه الأسس بقيت بعيدة عن البرامج السنوية للأكاديمية التي ظلت نخبوية يعيش أعضاؤها في محرابهم بطريق زعير.

الواقع اليوم يفرض على الأكاديمية أن تنفتح على المواطن وعلى الإعلام وعلى النقاش العمومي دون بقاء أعضائها عالقين في عالمهم الخاص، حيث يصل أغلبهم في سياراتهم الفارهة بسائق خاص، لأنشطة الأكاديمية، يتبادلون الرؤى فيما بينهم، يتلون ما تيسر من أفكار صنعت داخل رؤوسهم، ويستمتعون بنقاش فكري فيما بينهم، ثم يغادرون القاعة نحو البهو لشرب كؤوس شاي مغربي مستمتعين بخضرة المكان وحلوى "كعب غزال" ثم يغادرون مقر الأكاديمية حاملين أفكارهم ونظرياتهم الخاصة و"المثاليات" التي يجب أن تحكم العالم دون أن يستفيد المواطن المغربي من أي "ثراء" أنتجه أعضاء الأكاديمية ونخبة البلد؟

بعيدا عن ضجيج المجتمع والطبقات الكادحة ماديا وفكريا، يظل 30 عضوا مغربيا يمثلون أكاديمية المملكة المغربية، ومثلهم أجانب، غارقين طوال السنة في وهمهم الخاص معتقدين أنهم يصنعون شيئا في ذاك المقر الفاخر بطريق زعير، حيث النخبة المخملية تعيش وتحرس بنيتها التقليدية، تاركة وعيا ممزقعا يعيشه المواطن الغربي يوميا دون الاستثمار في تغذيته من طرف النخبة التي تحاضر في ما لا يصل إلى العامة.

الذكاء والمعرفة لا تهدد. الجهل هو ما يهدد مستقبل المغرب، ومن أجل تقليص الجهل بالوعي أُسِسَت أكاديمية المملكة المغربية كمشروع للاستثمار في المعرفة من خلال صناعة الأفكار وفتح النقاش الحضاري للنخبة المثقفة لمساعدة المجتمع على تطوير وعيه الجماعي، ولن يكون ذلك متاحا إلا بالخروج من النخبوية إلى التواصل مع المجتمع من خلال مقالات فكرية في الإعلام والوسائط، والمساهمة في إنتاج المعرفة والإبداع الفكري والفني بمحضارات ولقاءات في القنوات والإذاعات الخاصة والعمومية في المجالات التي تهم المجتمع والقضايا المصيرية للدولة، غير ذلك، ستبقى أكاديمية المملكة مثل محراب لصناعة الفكر الذي يُنتج في طريق زعير ويبقى حبيس ذاك الفضاء الفسيح عاكسا أزمة المثقف واستقالته الطوعية عن إدراك القضايا الحقيقية لمجتمعه.

تعليقات
جاري تحميل التعليقات

آن الأوان للمغرب أن يدير ظهره كليا للجزائر!

لا يبدو أن علاقة المغرب مع الجزائر ستتحسن على الأقل خلال عِقدين إلى ثلاثة عقود مُقبلة. فحتى لو غادر "عواجز العسكر" ممن يتحكمون بالسلطة في الجزائر، فهناك جيل صاعد بكامله، ...